عبد الرحمن علي طه للشعر والموسيقى سحر عجيب.. فالقصيدة إن وجدت اللحن السلس الملائم تنطبع داخل ذاكرة الناس وتبقى ما بقى الناس فمَن مِن أبناء جيلنا والأجيال القبلنا لايحفظ شيئاً من الأهزوجة الدراسية البديعة «في القولد إلتقيت بالصديق أكرم به من فاضل صديق» والتي كانت ضمن منهج الجغرافيا في مدارس الأساس القديمة، والتي أدرك مؤلفها وهو من أساطين التربية والتعليم ببلادنا أن تدريس خريطة السودان وحدها لاتكفي ليعرف التلاميذ أقاليم بلادهم وطرق كسب العيش فيها فألف تلك القصيدة الشيقة السلسة التي تتنقل بالتلميذ من إقليم لآخر في عذوبة لحن وسهولة شعر فخلدت في أذهان الأجيال فمن هو مؤلفها؟ ولد الأستاذ عبد الرحمن علي طه بقرية أربجي بولاية الجزيرة عام 1901 وتخرج في قسم المعلمين بكلية غردون عام 1922 وعُيَّن معلماً بمصلحة المعارف، وعمل معلماً بمدرسة أم درمان الوسطى، ثم معلماً بكلية غردون لتدريس الانجليزية والرياضيات والتاريخ والجغرافيا والأدب الغربي، ومن رصفائه المعلمين بالكلية إسماعيل الأزهري ونصر الحاج علي ومن طلابه أمين التوم وسر الختم الخليفة ويحيي الفضلي وبابكر عوض الله والتيجاني الماحي ومحمد عثمان يس وإبراهيم جبريل وسرور رملي، ثم نقل الأستاذ عبد الرحمن علي طه إلى معهد بخت الرضا بطلب من عميد المعهد المستر «قريفز» ليعمل معه كنائب للعميد في ذلكم المعهد العريق وما ذلك إلاَّ لمعرفة قريفز بنبوغ وتفرد الأستاذ عبد الرحمن علي طه الذي تم استبعاده من الترشيح للبعثات الخارجية أكثرمن مرة لأن المستوى العلمي الذي عرف به كان يفوق كثيراً ما كانت كلية غردون تسعى لتحقيقه من تلك البعثات، وللأمانة الأدبية لابد لي أن أشير إلى أن كل ما أكتبه عن الاستاذ عبد الرحمن علي طه أنقله من صديقي النابه الأستاذ عثمان أحمد الأمين أستاذ شعبة التاريخ السابق في معهد بخت الرضا وعضو اللجنة العامة للمناهج وقد أرسل لي قبل أسبوعين كتابه المدهش «أعلام في تاريخ بخت الرضا» وفيه يوثق ل24 من الأساتذة السامقين الذين قام على أكتافهم التعليم ببلادنا، وهو عندي لايقل سموا عنهم، فالذي يهب الأجيال الجديدة السير الذاتية لأولئك الأفذاذ يعتبر بلا شك واحداً منهم، فلولاه ما عرفنا عنهم كثيرُ شيء، فعن الأستاذ عبد الرحمن علي طه يقول الأستاذ عثمان: «إن نجاح بخت الرضا ما كان ليكون بمثلما كان عليه لولا أن حبا الله بخت الرضا بذلك العبقري الفذ الحصيف اللماح الذي اتصف في المجتمع السوداني بالنشاط واللباقة والذكاء». كان الأستاذ عبد الرحمن علي طه من رواد التأصيل التعليمي واحلال المناهج المرتبطة بحياة أبناء السودان وتاريخهم واساليب أنشطتهم الحياتية والمعيشية مكان المناهج الدراسية الوافدة التي وضعتها الادارة الاستعمارية، وقد كتب المستر «قريفز» في مقال في مجلة بخت الرضا مودعاً الأستاذ عبد الرحمن علي طه «وإن لعبد الرحمن أفندي عليَّ شخصياً ديناً يصعب سداده، ولنا نقاش طويل وحجج في كل مشكلة فأنا عادة أُمثِّل وجهة النظر الأجنبية وهويُعبِّر عن وجهة النظر السودانية حتى يتمخض عن ذلك شيء يجمع بين الوجهتين»، وقد أهدى المستر قريفز كتابيه «تجربة في التعليم» و«المعلم محوراً» للأستاذ عبد الرحمن علي طه وقد وصفه بقوله «كان يتمسك بالمبادئ الدينية والأخلاق، وكان لنا نحن الأجانب المرجع في أسلوب المعاملات اليومية كما كان القدوة في الإخلاص للعمل» في عام 1948 نُقِل الأستاذ عبد الرحمن علي طه إلى رئاسة مصلحة المعارف بالخرطوم وفي ذات العام عُين وزيراً للمعارف كأول سوداني يتقلد هذا المنصب ودخل الجمعية التشريعية بحكم منصبه، وفي عام 1958 فاز في الانتخابات وتم تعيينه وزيراً للحكومات المحلية وظل في المنصب حتى نوفمبر من ذاك العام، وقد أحدث خلال فترته القصيرة وزيراً للحكومات المحلية نقلة مهمة في ادارة الحكم المحلي، ولفائدة الكثيرين جداً من الذين تلقوا الدراسة بالمنهج القومي القديم أنشر القصيدة التي ألفها عبد الرحمن علي طه وخلدت في أذهاننا بعد أن طافت بنا في أنحاء بلادنا: في القولد إلتقيت بالصديق أكرم به من فاضل صديق خرجت أمشي معه في الساقية ويالها من ذكريات باقية فكم أكلت معه الكابيد وكم سمعت أور وآلود ودَّعته والأهل والعشيرة ثم قصدت من هناك ريرةَ نزلتها والقرشي مضيفي وكان ذاك في أوان الصيف وجدته يسقي جموع الإبلِ من ماء بئر جره بالعجلِ ومن هناك قمت للجفيلِ ذات الهشاب النضر الجميلِ وكان سفري وقت الحصادِ وسرت مع رفيقي للبلادِ ومرَّ بي سلمانُ على مختلف المحصول بالحب إمتلا ومرة بارحت دار أهلي لكي أزور صاحبي بن الفضلِ الفيته وأهله قد رحلوا من كليلك وبالفضاء نزلوا في بقعة تسمى بابنوسة حيث إلتقوا ذبابة تعيسة ما زلت في رحلاتي السعيدة حتى وصلت يامبيو البعيدة منطقة غزيرة الأشجار لما بها من كثرة الأمطار قدم لي منقو طعام البفرة وهو لذيذ مثل طعم الكسرة وبعدها إستمر بي رحيلي حتى نزلت في محمد قولِ وجدت فيها صاحبي حاج طاهر وهو فتى بفن الصيد ماهر ذهبت معه في مرة للبحر وذقت ماءً لا كماء النهر رحلت من قولِ لود سلفاب لألتقي بسابع الأصحابِ وصلته والقطن في الحقل نضر يروى من الخزان لا من المطر أعجبني من أحمد التفكير في كل ما يقوله الخبير ولست أنسى بلدة أم درمان وما بها من كثرة السكان اذ مرَّ بي إدريس في المدينة ويا لها من فرصة ثمينة شاهدت أكداساً من البضائع زمرا من مشتري لبائع وآخر الرحلات كانت عطبرة حيث ركبت من هناك القاطرة سرت بها في سفر سعيدِ وكان سائقي عبد الحميدِ أعجبت من تنفيذه الأوامر بدقة ليسلم المسافر كل له في عيشه طريقة ما كنت عنها أعرف الحقيقة ولا شك أن في بلادي ما يستحق الدرس باجتهاد فأبشر إذاً يا وطني المفدى بالسعي مني كي تنال المجدا تأمل عزيزي القارئ القصيدة التي عاشت ولاتزال تعيش في وجداننا، قصيدة بسيطة المفردات عظيمة المعاني وأنا أنشرها كاملة وأهديها لزملائي من جيلنا والأجيال التي سبقتنا من خريجي المدارس القديمة والثانويات القديمة وأخص خريجي حنتوب وجامعةالخرطوم «أم لبخ الجميلة ومستحيلة» كما كان يسميها صديقنا د. صديق أم بدة. في عام 1958 تقاعد الأستاذ عبد الرحمن علي طه وعاد لأربجي مسقط رأسه وعمل على اصلاح القولد بادخال الماء والكهرباء والمدارس ومركز الصحة، وتوفى إلى رحمة مولاه في الثاني من فبراير عام 1969 وقد رثاه الشاعر الكبير عمران العاقب: يا واهب القطر من دنياه ما عجزت عن مثله أمة أعيانها مُجُدُ بنيت صرحاً من الأمجاد في زمن لم يعل شأوك في ميدانه أحدُ أسهدت ليلك والغافون في حلم وكان نورك في الظلماء يتقد أعددت للشعب أجيالاً وكنت لهم نعم المعين الذي من حوفته وردوا من نور علمك ساروا يحملون هوى ومن تفرقهم في ظلك إتحدوا ألا رحم الله الأستاذ العظيم الراحل عبد الرحمن علي طه وجزاه عن أمته خيرالجزاء.. مع تحياتي.