حدث ذلك في أيام الصبا.. في بداية الستينيات.. كنت قد بدأت أعرف التمرد وكنت أدخل السينما «خلسة» وفي الأعياد.. وكنت من القلائل الذين دخلوا السينما كثيراً.. وكانت شقيقتي «سوسن» التي تصغرني بعامين تكاد تموت حتى تدخل السينما.. جارتها في الفصل حدثتها عن فيلم شاهدته في السينما مع أسرتها.. ومنذ ذلك الحين وهي تحلم بأن تشاهد فيلماً في السينما.. كان من المستحيل أن يسمح لنا أهلنا بذلك.. وكنت أحسب أن البنات خلقن للبقاء بالبيت وأنهن استسلمن لذلك تماماً.. ولما فاجأتني برغبتها في الذهاب إلى السينما خفية ودون إخبار أهلنا.. في البدء ضحكت بسخرية من فكرتها.. ولكن تدريجياً بدأت أفكر جدياً في الموضوع.. ستكون مغامرة شيقة. كنت أرغب حقيقة في دخول السينما.. أما «سوسن» فكانت تحلم بذلك وتهفو إليه.. واتفقنا على قرار الذهاب إلى السينما مهما كلف ذلك.. وأخذنا نخطط لذلك.. اخترنا أول أيام الشهر.. فهو عيد صغير للصبيان والفتيات ينفحون دراهم خارج نطاق مصروف المدرسة.. ويتكرم الآباء في ذلك اليوم فيحضرون أكياس الفاكهة.. ويحمل الأب «بطيخة» كبيرة.. وأقبل أول الشهر وامتلأت جيوبنا ببعض النقود.. ووفرنا مالنا كله ولما أحصيناه وجدنا أنه يكفي ثمن التذاكر والتسالي.. ولم نفكر في «مواصلات» فتلك ستكشف أمرنا.. أقبل المساء ولم تنجح كل حيلنا في أن نحضر العرض الأول.. رأت سوسن أن نؤجل الذهاب إلى الغد.. ورأيت أن نؤجله إلى العرض الثاني.. فزعت.. ترددت.. تخوفت لكنها قبلت. في ذلك المساء تظاهرنا بالنوم منذ السابعة وبعد حين نهضنا ووضعنا الغطاءات في شكل الشخص النائم وتسللنا بهدوء ففتحنا الباب بحذر وأغلقناه بحذر أكثر وانطلقنا نجري.. هيا يا سوسن.. هيا حتى وصلنا.. وقطعنا التذاكر ونحن «نتلفت» حتى ولجنا وجلسنا.. سوسن تتأمل كل شيء وتندهش به... تنظر إلى الضوء المتسلل من حجرة ماكينة تشغيل الفيلم.. تتأمل الناس والجدران.. وأنا لا أندهش.. أتظاهر بأن ذلك أمر طبيعي بالنسبة لي وكأن الولد يحضر يومياً إلى السينما.. بكت سوسن اندماجاً في قصة الفيلم المأساوية.. وطفرت دموعي فرحاً بهذا الإنجاز الثوري المغامر. كانت «سوسن» تبدي ملاحظات أعتقد أنها ذكية ولماحة.. قالت لي إنه عندما يشعل بطل الفيلم سيجارة تنتقل العدوى إلى المشاهدين فتظهر عشرات الأنوار الحمراء في مقدمة السينما . عُدنا ونحن نأمل أن تمر المغامرة بدون خسائر.. تسلقنا الحائط كالقطط وعدنا إلى أسرتنا كالجنود الفاتحين.. دخل ذلك اليوم حياتي كيوم رائد.. وفي حياة سوسن كحدث مهم.. فصارت تؤرخ به الأحداث.. فعندما تتحدث عن شيء اشترته تقول إنها اشترته قبل دخولنا السينما بيومين.. أو إنهم درسوا النشيد الفلاني بعد دخولنا السينما بيوم.. عرفت ذلك اليوم أن البنات مثل الأولاد يثرن على الخلل ويُعلن التمرد وتمنيت لو أن رب الأسرة كان الأم.. أحببت سوسن أكثر وأصبحت أحس تجاهها بشعور الصداقة بجانب الأخوة. توهجت سوسن قليلاً حتى فوجئت بها ذات يوم ممددة على السرير تئن.. عيونها منطفئة وترتدي ألبسة غريبة.. عيونها منطفئة تعلوها صفرة قميئة وترتدي تمائم وتعاويذ.. مخضبة الأيدي والأرجل كأنما هي عروس صغيرة.. عرفت أنها ختنت!! تساءلت: لمَ تختن البنات.. قالت لي والدتي إن الختان يفرق بين المؤمنات والكافرات.. نهرتني وزجرتني عندما سألتها وماذا فعلوا بها حتى تبكي وتكاد تموت هكذا؟.. سألت أستاذ الدين عن ذلك فقال لأن ذلك يمثل الطهارة.. والبنت تكتسب بعد ذلك الشرف الذي يجب أن يحافظن عليه.. صرت بعد ذلك اتأمل الشرف كمظهر من مظاهر نمو الفتيات.. نتاجه الحزن الأليم على وجه سوسن وانكسار في النظرات.. عاد التباعد بيننا من جديد.. صرت أكثر إحساساً بعدم التناغم وهي أكثر استسلاماً للقمع. وعندما قلت لها ممازحاً: تعالي تاني نخش السينما يا سوسن!.. قالت بانكسار وأطلقت ضحكة كالبكاء: تاني وين يا محمد ما خلاص. }}