.. وجلال الدين الرومي حين يطلق في مجلسه المأهول بالإمتاع والمؤانسة كلاماً يخترق شغاف القلب، ويصيب صميمه لا يجد من لوحة العشق، وأضناه الغرام، وهو درويش مغمور يقعد على هامش المجلس، سوى أن يرسل آهة عميقة تضج معها الأرجاء طرباً، لكن الرومي الذي يدرك أن مقدرة الخلجات أبرع من الكلم قال لصاحبه إمنحني هذه الآهة وخذ بقية عمري.. والمتتبع لما يسمى بالمذكرات التصحيحية التي راجت في الأوساط الإسلامية مؤخراً وحفل بها الإعلام، كما يحفل الغريق المتغوث بقشة، يجد أنها تطلق من الآهات وتسطر من المرثيات على ذات تشظت ورموز تساقطت ومشروع تداعى، أكثر مما تضع من معالجات وحلول.. وقد تسنى لي أن أطلّع على بعض متونها وما سطّر من نقد وتحليل على حواشيها، حيث أصطف ناقديها بين فسطاطين الأول مضى إلى تهويلها، والتعويل عليها في إحداث تغيير كبير في بنية الدولة والتنظيم واعتبارها عودة للوعي في لحظة شكسبيرية فارقة تمر بها البلاد، والتنظيم مرجو لإعادة الأمر إلى نصابه القويم، حتى صار من يتحدث عن إنحراف الحركة الإسلامية واضطراب مسيرها رجل مثل عبد الله زكريا، الذي هو عبد الله زكريا، فليس من صفة مقابلة له وهو مرجو لمناقشة إنحراف النظرية الثالثة إلى أسوأ أنماط اليوتوبيا المعاصرة، وصار من يتحدث عن رؤاها الإصلاحية رجل مثل حيدر إبراهيم علي، الذي يكن لها عداءً يشع من كل حرف وجملة وتركيب سطره يراعه المبذول، لنسف إمكانية تطبيق علياء الدين في واقع السياسة، والفسطاط الثاني مضى إلى تهوينها وجعلها ضرباً من الأحاييل التي يجيدها التنظيم لإلهاء الساحة السياسية، وملء شواغرها بشواغل عابرة، وقد دللوا على ذلك بأن المذكرة المنسوبة إلى ألف أخ أرسلت رؤاها دونما توقيع تماماً مثلما يكتب بعض اليافعين في سني مراهقتهم أسماء معشوقاتهم على الجدر والحوائط، دون أن يثبتوا أسماءهم وهو ما عده محمد عثمان ابراهيم مؤشراً لكساد الأيديولوجيا، وللنظر للمذكرات التصحيحية بعين ثالثة، بعيداً عن السخط والرضا والتهويل والتهوين، ينبغي أن نردها إلى سياقها الناظم الذي يجمع أشتاتها في صيرورة متراكبة متراكمة، نجد بعضها فيما ذكره التجاني عبد القادر من تفكيك لتحالف السوق والقبيلة والأمن ونجد بعضها فيما أورده الأفندي من إختطاف الحركة لصالح مجموعة شديدة الترابط والتواثق على أهداف ورؤى ممايزة، لما ظل يبشر به التنظيم حيناً من الدهر مثلما نجد بعضها كذلك في مقالات المحبوب، التي ترد الأزمة إلى فرار الإنتلجينسيا الإسلامية من دورها العضوي في مقابل تمترسها وراء مصالحها الذاتية، مؤكداً على أن إستوزار رموز لجان الرأب والصدع عقب المفاصلة مباشرة جاء مكافأة لهم على توليهم يوم التقى الفصيلان في واقعة الرابع من رمضان ونجدها في مقالات غازي وأمين، وحوارات حسن مكي، وصفحات خالد التجاني النور، والطيب زين العابدين، ومن نسج على منوالهم، لكن ما أضفى عليها كل هذا الزخم هو دلالة توقيتها المختار بعناية فائقة، بالإضافة إلى ما ترمز إليه في أدبيات الإسلاميين من تأثير شديد الوقع في رسم المسار وإعادة توزيع القوة والقيادة وليس من مصادفة أن تأتي قيادة الترابي للتنظيم عقب مشاركته الفاعلة في إعداد أول مذكرة حول الهوية والهدف في العام 1950م، مثلما أفاد بذلك أحمد عبد الرحمن القيادي التاريخي المعروف، وليس من مصادفة كذلك أن الإطاحة به من سدة القيادة جاء محمولاً على وقع مذكرة العشرة التي نالت حظها من الصيت، مع ضرورة استصحاب أن المذكرات لا تنشيء واقعاً مغايراً بيد أنها تسهم في إنشاء هذا الواقع وتهيء المسرح للتغيير، ولعل الخطيئة التي لم يذكرها المعدون للمذكرات (المزيفة والصحيحة) أنهم لم يلحقوها بأسمائهم وتوقيعاتهم، ولم يردفوها بالشروحات والتوضيحات والدفوعات، التي ساقتهم إلى هذا الفعل النبيل.. ومن واقع تجريدي للموضوع وتحريري للمسألة رأيت أن معظم الإشارات والتنبيهات الواردة في المذكرات التصحيحية والمقالات الإصلاحية، تدور حول أربع آهات: آهة الإستبداد بالرأي والإستئثار بالنفوذ والسلطان لدائرة تضيق كلما أتسعت الحكومة وتضاءلت الحكمة، وآهة الفساد الذي صار منظومة معقدة وصعبة الإختراق، آهة التراجع الوظيفي والفشل السياسي والإقتصادي، آهة الشعور العميق بتداعي المشروع وتحوله من فضاء الفكر إلى ضيق المعالجات الأمنية، وضبط العلاقة بين ثلاث حاءات من الأطر والمستويات، (حاء الحكومة، وحاء الحزب، وحاء الحركة) ومع أن مقاربة الأستاذ طه النعمان تفترض أن إعادة النظر في هذه العلاقة هو محض افتعال، وأن زيت الحركة سيظل في بيت الحزب، فإن الشواهد التي جعلت الأستاذ علي عثمان يمتعض من مداخلة حسين خوجلي في آخر مؤتمر عام للحركة، حين تنبأ بنزاع حتمي بين المكونات الثلاث قياساً على النزاع الثنائي بين النظام والتنظيم الذي قاد للمفاصلة الشهيرة، تعطي مسارب دالة على اتساع مساحة الوميض واشتعال ضرام الثورة من الداخل، رغم محاولات التخويف ومطاولات التسويف.. ولنا عودة.