التقوى لغةً تعني صُنعَكَ حاجزاً بينك وبين غيرك لتجعل نفسك بمنجاةٍ مما قد يُحدِثُ لك ضرراً، وتقوى الله تتمثل في إتيان أوامره واجتناب نواهيه، وقد أوضحتها آيات الذكر الحكيم في الفرار إلى صفات الجمال من غفَّار ورحمن ورحيم وسلام وغفور «ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين» الذاريات(50) وفي الفرار من أو اتقاء صفات الجلال من جبَّار وقهار ومُنتقم ومُذل «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا» الأحزاب (70) ولعل ذكر النار هنا أمر مهم لتكرار الدعوة لاتقائها لأنها من صفات الجلال «يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة» التحريم (6). لقد احتل أمر التقوى درجاًً عالياً لدى صحابة رسولنا صلى الله عليه وسلم فظلُّوا في رقابة دائمة على أنفسهم يحاربون الشيطان في مواقعه الأربعة.. يميناً ويساراًً، وأماماً وخلفاً بمعزلٍ عن الأعلى والأسفل اللذين قال عنهما العارفون: إن أولهما يرمز إلى مقام الألوهية، وثانيهما إلى موضع العبودية وقد جُرِم الشيطان من ارتيادهما «ثم لآتينَّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين» الأعراف (17). عاش الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ضرباً من القلق نزل بساحاتهم وهم يستمعون لقول الحق تعالى «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون»آل عمران (102) لقد انتابهم شعور بالتقصير في حق الله سبحانه وتعالى ورأوا أن درجة التقوى المطلوبة قد خرجت من دوائر طاقاتهم. تضاعفت جهودهم في بذل الطاعات واجتناب الزلاَّت وخشيةُ ربهم وتقواه تلازمهم في كل حين مع مصاحبة الحذر من التقصير. لم تحتجب البشرى عن الصحابة كثيراً، فما لبثت آية حق التقوى أن تؤتي أكلها طاعات طبعت أثرها سيرةً وسريرةً على أنفسهم إلا أن تفجرت المعاني من هذا الكتاب الذي لاتنقضي عجائبه، فبعد أن تمًّّّّ تأهيلهم لدرجات حق التقوى جاءتهم آية أخرى ظاهرها فيه التخفيف وباطنها ينطوي على أجر من الله عظيم «فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون» التغابن (16). بحِسِّهمُ اللُّغوي عالي المستوى أدركوا أن وضع التقوى في إطار الاستطاعة يمكِّنهم من بذل قدرٍ أكبر من الطاعات وذلك بتخفيف ثِقل حِمل التقوى الذي أثار في نفوسهم الخوف فأقبلوا على العبادات في كل درجاتها قولاً وفعلاً، فرضاً ونفلاً تتمثل كلها في دائرة العمل ليجزيهم ربهم أحسن ما يعملون. والحديث عن التقوى محببٌ إلى نفوس المؤمنين لأنهُ يذكِّرهم ببشارة العلم «...واتقوا الله ويعلِّمكم الله..» البقرة (282) ويوفِّر المخارج من المآزق ومواضع الضِّيق، ويجلب الرزق من مصادر خارج دوائر الخواطر«ومن يتق الله يجعل له مخرجا (2) ويرزقه من حيث لايحتسب (3) » الطلاق، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد اصطحب التقوى والاستقامة، وهما صنوان، وأمعن في حبهما حتى رأى أصحابه رضوان الله عليهم أثر التقوى عندما سألوه بقولهم: لقد وخط الشيب رأسك يا رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم: شيَّبتني هود وأخواتها، فدعنا قارئي العزيز نستعرض هذه المعاني السامية لدعوة التقوى والاستقامة، فأخوات هود هي الشورى وفصِّلت والأحقاف وقد وردت فيها الدعوة للاستقامة «فاستقم كما أُمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير» هود«112» «فلذلك فادع واستقم كما أُمرت ولا تتبع أهواءهم..» الشورى (15)، «إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألاَّ تخافوا ولا تحزنوا..» فصلت (30) «إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون» الأحقاف (13). اتخذ قدوتنا عليه الصلاة والسلام والرعيل الأول من صحابته الاستقامة والتقوى الواردة مادتها في القرآن الكريم في ثمانية وخمسين ومائتي موضع وأصبحت رآيات هدى، ومعالم رشد على سواء السبيل فنقلوها على مدى القرون أنواعاً من السلوك الذي ارتداه التابعون وتابعو التابعين فتأصَّل في النفوس كزرع أخرج شطأه. يحكى أن أحد العارفين كان يصلي بالناس إماماً فوقع الحائط أمامه وأثار غباراً، فقالوا له بعد الصلاة: يا إمام، أما شعرت بسقوط الحائط؟ كانت إجابته لهم في صورة سؤال: سبحان الله، تصلُّون وتسمعون.؟