الشاعر الحلمنتيشي في سبعينات القرن الماضي بجامعة الخرطوم، وجد «مولانا» ممسكاً بغصن شجرة النيم وطرفه ساهم في الأفق فسأله: «يامولانا مشرور ولاشنو؟» نفي مولانا بشدة واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، ولكن الشاعر «العفريت» لم يقتنع بنفي مولانا المنصوب بالشرة الظاهرة على وجهه، فانشأ قصيدة ذاع صيتها في الوسط الطلابي في تلك الأيام أذكر منها: يامولانا ضوق الشر.. أكان هامان وكان عرمان وكان عنتر تضوق الشر!! وأنت ياعبد العظيم بعدما «ضوقتني المرة كان لازم أضوقك الشرة»، ولكن في هذه الحلقة سنرفع عنك الحظر قليلاً وسنحكي لك حكاية نجاة الفنان الكبير علي إبراهيم اللحو من موت محقق في نادي كلي بالحلة الجديدةبالخرطوم.. والقصة تتلخص في أن الخال المرحوم معاوية محمد أحمد سعيد سلَّم «مناحة» عمدة كلي للأخ علي إبراهيم بطلب من الأخير، بعد أن سمع منها مقاطع من معاوية نفسه، ثم ذهب معاوية للفنان اللحو يدعوه للمشاركة في احتفال افتتاح نادي كلي، والنادي كان مستأجراً في الخمسينيات ما بين المايقوما والسجانة، فظن اللحو أنه سيغني في النادي المستأجر الذي كانت عند بابه شجرة متكئة تجعل الداخل يطأطئ رأسه، فمازح اللحو معاوية قائلاً: ياخوي ياهو ناديكم داك الواحد لما يدخل إلا يركع؟ فأجابه معاوية ياخوي نحن أمتلكنا قطعة أرض وبنيناها، ففرح اللحو فرحاً شديداً، ووعد بتجهيز قصيدة عمدة كلي والمشاركة بها في الافتتاح الذي كان في بدايات الستينيات، واللحو مسكون بحب كلي وأهل كلي، وهم يبادلونه الحب حباً، والوفاء وفاءً، وهو رجل ودود وولوف وصاحب نكتة. جاء اللحو ليلة افتتاح النادي وغنى ما شاء الله له أن يغني، ثم أراد مفاجأة الجميع «بمناحة» عمدة كلي، ودخل بصوته المليان وموسيقاه المميزة.. وكما قال الأستاذ حسين خوجلي-رد الله ألوانه- علي إبراهيم لا يغني، علي إبراهيم «يقوقي» حمل علي إبراهيم الجميع إلى عوالم هي نفسها العوالم التي حملني اليها طلب الأخ الكريم عبد العظيم صالح للكتابة عن «مناحة» عمدة كلي!! صدقوني أنا لا أدري كنه تلك العوالم، لكنها عوالم «كالشيمة» الداخل اليها مفقود والخارج منها مولود.. ثم عندما و صل إلى مقطع: رحل ياشما أبوكي وقفَّى خلىَّ الدور وأنحل النظام الكان زمان مجبور بوجود ناس أبوي قبل العبوس ما تدور أنهد الجبل وأتشتت المعمور يابوزينب وراك أتكشف المستور هنا رأي اللحو رجلاً ينهض من كرسيه، ويأتيه على المسرح مسرعاً،وعندما تعثر في ثوبه وطئ الثوب برجليه وترك الثوب ملقياً على الأرض، واستل سكينه ورفعها وانتهر اللحو: أسكت ياولد والله ما تسكت إلا أشقك بالسكين دي من رقبتك إلى محسنك!!. سكت اللحو، وأسرع الخواض ود صالح وآخرون إلى المسرح، وأخذوا اللحو وفرقته إلى قائمة الاجتماعات بالنادي، وأخذ آخرون الحاج أحمد ودباشاب جانباً- وهو فاقد بوصلة حنكته المعروفة وتعقله المشهود- وهو أحد أعيان وكبراء البلد.. وبعد لحظات وجيزة جاء ودباشاب إلى اللحو وقال له: مالك ياولدي علي؟ ياولدي أنت رجعت لي صورة «شما وزينب» بنات العمدة، وطشت الرماد الجابنو معاهن، وختنو بين الحِلة والمقابر، وبقن يجرن على قبر أبوهن ويدردقن فوق ترابو ويرجعن للطشت، ويكيلن روسنن بالرماد!! مالك علي ياولدي داير تخليني أرتكب لي جريمة؟! ثم فك السكين من ذراعه مع جفيرها ووضعها على التربيزه وقال: السكين دي خمسين سنة ما فارقت ذراعي، لكن بعد اليوم ما بتلزمني. أنت محظوظ ياعبد العظيم نحن بقينا أفندية ومالابسين سكاكين، وإلا لأصبحت الشرة زرة.. أحمد ربك ولا تعد لمثلها. أعود مرة أخرى إلى الحديث عن المكون البيئي والمزاجي الذي تخلقت فيه القصيدة، بعد نشر الحلقة الأولى كاتبني كثيرون «الكترونياً» واتصل بي كثيرون منهم نائب مجلس تشريعي ولاية نهر النيل الأخ محمد طاهر العمدة، نائب دائرة المتمة شمال، والأخ مصطفى عبد القيوم نائب دائرة شندي الشمالية، وأكثر ما أعجبني هو موافقة الجميع على العمومية العربية، والخئولة النوبية، للجعليين تصريحاً أو سكوتاً و «السكات رضا»، وهذه كما سنرى قد شكلت العمق الشاعري الذي انتج هذه «المناحة» التي أصبحت عَلَماً في الغناء السوداني، فالتاريخ يشهد أن النوبة يعظمون موتاهم لاسيما الملوك والحكام وأصحاب الجاه، ولا شك أن العرب يفوقون كل الأمم عناية بالشعر واحتفاءً به وبأهله. والشيخ ود بشير ود رياشي شاعر هذه «المناحة» هو عربي اللسان نوبي الوجدان، وعندما تحتفي به بنات العمدة «شما زينب» فإن ذلك من شيم العرب واهتمامهم بالشعر، وعندما تحزن البلد كلها لوفاة العمدة، فإن هذا من موروثات الحضارة النوبية والجينات الملوكية الحريصة على البقاء، بجانب كونه موروثاً إنسانياً يتفاوت بين الأفراد والمجتمعات. والعمدة أبو جديري هو «علي ود سعد محمد الشميمي الكريخابي الحيدرابي الجعلي العباسي، الهاشمي القرشي، وأهل كلي هم أولاد رجل واحد، هو عبد العال بن عرمان منهم الحيدراب، وهم أولاد حيدر بن عبد العال بن عرمان، وهم عصبة العمدة أبو جديري وأهل أبيه، والعشانيق أولاد محمد «عشا النوق» أبن عبد الكريم بن عبد العال بن عرمان، وهم رحم العمدة أبو جديري وأهل أمه، والحيدراب والعشانق هم أكبر بطنين من بطون الجعليين في المنطقة.. وأبو جديري ولد في كل عام 1849م وتوفى فيها 1938م فهو ابن قرنين (19-20) وابن بطنين «حيدراب وعشانيق» وابن حضارتين «عربية ونوبية». وقبل أبو جديري كانت كلي تحت قيادة العبكاب على العهد التركي العامل «علي ود العبك» ثم ذهبت الرئاسة في عهد المهدية إلى العامل «بشير ود الأمين» من الدراشاب ومن بعده جاء العمدة «أبو جديري» في عهد الاستعمار الانجليزي المصري، وكان عمدة على «كلي والمكنية» وأعقبه على العمودية «علي ود حامد» من بقروسي ثم «محمد علي سالم» من المكنية وهو والد الشاعر الكبير والصديق أزهري محمد علي صاحب «وضاحة يافجر المشارق»، ولأن العمدة ود علي سالم كان يعلم تمرد أهل كلي على الحكام واعتدادهم بارثهم القيادي، فقد طلب مصاهرتهم وتزوج منهم بنعمة بت عثمان ود صالح «الرازقية» عمة الطبيب النجيب محمد الطيب عثمان. ولما توفي العمدة «محمد علي سالم» ضربت له النقارة في كلي والمكنية وأحسب أنها- أي النقارة- من العادات النوبية في تعظيم الموتى لأني لم أجد لها أثراً في جزيرة العرب، ولا في التاريخ العربي فهي أفريقية بحتة، وكانت نقارة العمدة ود علي سالم في الموضع الذي بنى فيه عبد الفتاح ميرغني منزله الحالي في كلي، كما حدثنا المهتم بتراث المنطقة الأستاذ خالد الجريف، ثم عادت العمودية إلى بيت الشميمي وتولاها العمدة البشاري حاج أحمد ود سعد محمد الشميمي ابن أخ العمدة أبو جديري، واستمرت عموديته حتى جاء الحكم المايوي، الذي كان أحمر في أول عهده، فألغى الإدارة الأهلية « النظارات والعموديات» في تلك المناطق واستمر المشائخ إلى حين، ثم اختفى دورهم وجاءت تشكيلات «الاتحاد الاشتراكي» الحزب الأوحد لكنها لم تلامس النسيج الاجتماعي الحي وبسببها أنفرط العقد لأنها ما أبقت على الإدارة الأهلية، ولا أقامت الدولة الحديثة وهذا بحث نتركه لأهل الشأن. إذن هذا هو الرحم الذي تخلقت فيه «مناحة» العمدة أبو جديري وفي حلقة الاثنين القادم سنتناول القصيدة بالشرح إن شاء الله.