مالك ياعبد العظيم يا أخي تريد أن توردني المهالك، وأنت تعلم أني قد كتبت شعر المراثي بالعربي المعرب، وبالعربي المحلي، وعجزت أن أكتب حرفاً واحداً في ثلاثة أشقاء وشقيقة ماتوا جميعاً ميتة فجائية بأسباب مختلفة، كلاً على حدة، ولم أستطع أن أرثي والدي ،ولا المهندس بدر الدين بله، ولا أسامة عثمان بنده، ولا كثيراً من الأقرباء والأحباء. وعندما أستمع لمناحة عمدة كلي يتملكني شعور لا يوصف، لكنني أشم معه عبق الجروف وطعم مياه (القواديس) برائحة (الألس) التريان، وتلفح أديم روحي نسمة تحمل عطر البرم، والنبق، والخريم، ونفس الدهسير، والدمسيس، والمرمت بمذاق عروق النجيلة، والسعدة، وخشخشة تموجات الدفرة والديس، في خيران سمريت، يذوب ذلك كله في إناء صنع من الحزن النبيل في صدري تماماً، كما يتلاشى صوت مياه الساقية المنحدرة عبر السبلوقة والدراو، وهي تحمل بشرى الحياة والنماء، يتلاشى صوتها في صوت الساقية المحزون، وعلامَ الحزن في صوت الساقية؟! لا أدري هل هو حزن على رقاب الأثوار المتعاقبة على الفجراوي والضحواوي والظهراوي والعشواوي، عندما يدميها الكَرَب والقرمدي والخناق، أم هو حزن على الأروتي النابه، الذي لا يجد طريقاً للتعليم، أم هو حزن على التربال الذي هو بالكاد يمتلك عراقياً وشمارة، لكنه يشرب لبناً صحياً، ويأكل خضروات طازجة، أم هو حزن على أولئك القانعات القابعات في الكرف، أم هو حزن على الجميع.. لا أدري. (مين فكرك ياعبد العظيم ومين هداك) لأن تطلب مني الكتابة حول مناحة عمدة كلي الآن!! أليس الفنان الكبير علي إبراهيم هو بلدياتك؟! ألم يتغن بها منذ حوالي نصف قرن من الزمان؟! أولست تعرفني منذ ربع قرن من الزمان؟! أولم تكن مستشاراً لمجلة دارفور الكبرى التي يصدرها أبناء دافور باليمن، وكنت أنا أكتب لك مقالاً في الصفحة الأخيرة قبل قرابة العشرين عاماً؟! ألم تكتب مقدمة لقصتي (زواج صوفوليكي)، لماذا لم تطلب مني هذا الطلب طيلة هذه الفترة؟ أرجو ألاَّ تكون قد علمت أني الآن في أوهن حالاتي إزاء هذا الماضي المهيب، وأرجو أن لا تكون قد عرفت أن الشاعر تعتريه أحياناً حالة من فقدان الوزن، فيحلق في سماوات لامتناهية المدى، ولا يعود منها إلا بقصيدة!! فأردت أن تحرمني من التحليق إلى الأمام بشدي إلى الماضي وياله من ماضٍ!!. أخي عبد العظيم صالح- سأعذبك مثلما عذبتني، ولن أكتب لك نص المناحة إلا في الحلقة الأخيرة من هذا المسلسل، وأما عن نجاة الفنان القامة (القوقاي) علي إبراهيم اللحو من القتل، فسيكون ذلك لاحقاً- إن شاء الله!. دعني أحدثك أولاً عن البيئة التي تخلَّقت فيها القصيدة- (المناحة)- كلي فيها أكبر حوض زراعي غرب النيل، وتحيط بها أراضٍ زراعية تُقدَّر بخمسمائة ألف فدان، لم تُستصلح بعد، وهي من أشهر عموديات الجعليين (عمودية كلي والمكنية) وفيها مشروع كلي الضواب الزراعي (9) آلاف فدان. وأزعم- وزعمي تؤيده الشواهد- أن كلمة ( كلي) كلمة نوبية، وهي تعني الساقية مع تعديل طفيف، فهي في النوبية بضم الكاف، وأصبحت بعد التعريب بفتح الكاف، وأزعم أن كلي كانت أحد أضلاع العاصمة المثلثة للحضارة النوبية المروية القديمة، ويتكون هذا المثلث من البجراوية (العاصمة السياسية)، وفيها الإهرامات القائمة إلى اليوم، ثم كبوشية (العاصمة التجارية).. ومع تحريف قليل فهي تعني بالنوبية ملتقى الطرق، وقد كانت ملتقى الطرق من الشمال والجنوب والشرق والغرب، وهي طرق تجارية، فالملح والماشية تأتي من الشرق، والمحاصيل تأتي من غرب النيل، والحديد يأتي من جنوب السودان، وربما التمر يأتي من الشمال، فتتم التجارة البكماء(المقايضة) في كبوشية (ملتقى الطرق). ازدهرت في الحضارة النوبية القديمة صناعة الحديد، كما ازدهرت الزراعة، وقد أجمع المؤرخون على أن الحديد الخام كان يأتي من جنوب السودان، وهذا ما جعل الدينكا يدعون أن اسم (الخرطوم) جاء من لغتهم، وهم في طريقهم يحملون الحديد إلى مروي القديمة، والمحاصيل والملح إلى بلادهم، والسؤال هو إذن أين ازدهرت الزراعة إن لم تكن في حوض كلي، الذي لا يفصل بينه وبين البجراوية وكبوشية إلا نهر النيل؟ وقد كان الري بالسواقي.. وكلي كانت مركزاً لصناعة السواقي حتى ستينيات القرن العشرين، واسم كلي يعني الساقية- كما سلف- وآخر ساقتين هما مترة (عبيد- وساقية ود أتبرا)، والدنا عليهما رحمة الله.. إذن كلي هي الرافد الاقتصادي الأول للحضارة المروية القديمة، فلولا المحاصيل بم كانوا سيقايضون الحديد والملح والأنعام والتمر؟. ورغم عروبية المنطقة إلا أنها احتفظت بمصطلحات الساقية النوبية كما هي، مع الاحتفاظ ببعض أسماء الناس والأماكن والنباتات والظواهر، فمن أسماء الناس (التلب) ومعناه الطابية أي الرجل الضخم.. و (الأرباب) ومعناه الملك الأب.. ومن أسماء الأماكن (كدركول) ومعناه جبل الخضر، فضلاً عن كلي وكبوشية التي سلف الحديث عنها.. ومن أسماء النباتات (الدهسير، والدمسيس، والمرمت).. ومن أسمى الظواهر (الشيمة)، وهي عبارة عن حركة دائرية لمياه النيل تظهر أيام الفيضان- الداخل اليها مفقود والخارج منها مولود. وأما مصلحات الساقية فكل أجزائها، وأكثر مصطلحات الزراعة لازالت نوبية في المنطقة، فمن أجزاء الساقية (الديو، التكم، السندقيق، القشق، الكالوق، اللقلوق، البدقوق، الفاشوق، الكرب، القرمدي، الألس، اللرص، التوريق، اللقنين، الكوديق، الأروتي أو الأورتي.. الخ). وكنت آخر أورتي يجلس على التكم في ساقية ود أتبرا على النيل في كلي، وأما مصطلحات الزراعة فمنها (الأورمبو، ا لتنقير، التتق، الكمتر الكشيب، المتيق، اللبقة.. الخ)، وفي بعضها تغيير طفيف لتناسب اللسان العربي. وشاهد آخر لا يقل خطورة عن سابقه، وهو أن العرب الذين هاجروا إلى هذه المناطق قبل وبعد الإسلام، وجدوا أن ملوك النوبة يورثون العرش لولد البنت، وليس للولد ولا ولد الولد، فتزوج العرب بنات الملوك وبنات الذوات، أهلهم لذلك سحنتهم الوسمية والأموال التي جاءوا بها -الماشية- فانجبوا أجيالاً عربية نوبية ومعتدة بأصولها (عمومة عربية، وخئولة نوبية ملوكية) هم الجعليون.. وخليك معاي ياعبد العظيم عشان تعرف أي مكون بيئي ومزاجي، أنتج مناحة عمدة كلي، التي رسمت في وجدانك ما لم يرسمه دافنشي في الموناليزا.. ونواصل