سألني الصديق الكاتب صلاح عووضة.. لماذا لم تكتب أو تتحدث عن رحيل وردي؟.. وحين يسألني صلاح لماذا لم أكتب وهو من أكثر المؤمنين بحرية أن لايكتب الكاتب فيما لايريد فالأمر يحتاج إلى تبرير.. حقيقة أنا لا استطيع أن اكتب عن رحيل وردي.. ماذا أقول.. أشبهه بالهرم.. النهر.. الفرعون.. فلا أجد وجهاً للشبه فالهرم يقف شاهداً فحسب.. والنهر قد يجف مثلما قد يفيض.. والفرعون سلطان لايكونه وردي ولاينبغي له مع كونه سلطان الطرب.. وماذا ترك لنا الناس لكي نتحدث عن موسيقاه الذكية وأغانيه الفضية.. ربما مالم يتحدث عنه أكثر الناس.. صبر وردي وجلده على احتمال المرض.. لقد فتح للحياة صدره لكن حقيقة الموت أقوى.. ألم تكن طاقة خيالية.. من رجل يحمل كلية بديلة ويعاني من أمراض عديدة وماتركوه في شأنه عاملوه بصفته حزباً أو وطناً ولكنه لايريد أن يكون أكثر من مغنٍ للجميع.. فقد وجد الحب من الجميع.. بذلوا له في فرح وكرموه عن جدارة.. ووقروه حتف الأنف.. وبينما هو يصارع الموت يغني في حفل رأس السنة بعد بروفات مضنية حتى يقدم أغنية جديده غناها وهو يلاحق الزمن كأنه استشعر.. كأنه استبصر.. أراد أن يختم حياته بعمل جديد.. فبذل مابذل.. وغنى سهرة كاملة ووقف متحاملاً على نفسه وهو يغني للوطن ولمحجوب شريف وللجماهير الحبيبة.. فترقص.. ألم ترى كيف كان الناس في حفله يحتضنون بعضهم ويتقافزون كأنهم يمارسون «الحي .. ووب» ألم تشهد في تجاوب الناس معه حميمية لم تحدث من قبل.. عانقوه.. وأحاطوا به وقبلوا رأسه.. اختياره للشاعر أمل دنقل الذي لم يسبقه أي فنان أو موسيقار عربي في جرأته على اقتحام عالم هذا الشاعر.. اكتشف وردي غنائية أمل دنقل.. فاختار أغنية ياوجهها.. سبحان الله وردت فيها كلمة الافتقاد كثيراً.. وهي تشتمل على حزن دفين.. كأنها مرثية.. لا أعرف في الموسيقى فما تأملت اللحن.. ولكن كان الأداء بطريقة مستحيلة.. فالقوافي كلها ساكنه.. والوقفات كثيرة والجهد كبير والصوت قد أعطى فلم يستبق شيئاً.. فكانت تلك معجزة.. انظر عبارات الافتقاد في نص القصيدة.. كم كنت افتقدك ياوجهها الحلو .. في الليل افتقدك.. فتضيء لي قسماتك النشوى ويهزني صحوي فافتقدك لكن بلاجدوى ويختم القصيدة مردداً في إلحاح .. ياوجهها الحلو مازلت افتقدك.. مازلت افتقدك ألست حُراً ياصلاح في أن لا أكتب .. هنا ياصلاح تموت الحروف حين تقال.. وهنا ياصلاح يصبح الكلام سقط قول.. وتحصيل حاصل.. ماذا يفيد الشمس أن تقول حين تغيب ذهبت الأضواء.. وعم الظلام.. وماذا يضيف إلى الناس وصف غيابها بهذه الطريقة المضحكة.. هذا في حال كوني من غمارالمستمعين أما في حالة كوني من الأصدقاء المقربين للفقيد.. يعرف الناس.. أن الرفاق القدامى انفضوا عنه وتركوه قائماً.. هنا تسللت إليه أحاول أن أعوضه بعض وفاء ربما غطاه الهوى الكبير.. فتحولنا من معارف إلى أصدقاء.. يحكي لي عن المسكوت عنده.. البعض يحسب أن الرجل يصرح بكل المسكوت عنه ولايخشى.. لكن كان لديه الأسرار التي احتوى بعضها طي الكتمان وألمح للبعض بها.. لذلك فافتقدت ذلك الصديق العذب.. صحيح أن مساحات التلاقي تتقاصر مرات.. لكن الجد والهظار.. السخرية الجارحة.. الحنو العميق الرطانة التي يشتهيها ويعشقها ويؤلف بها الأشعار.. احتمال وردي رحيلاً تلو رحيل.. وفراقاً أثر فراق.. أصبح طيراً مهاجراً حقاً.. كل هذا الإلف الجميل مر كلمح البصر.. وسنحاول أن نحتمل الأيام دون وردي.. سننشغل بعد حين بأمور الحياة.. لكننا قطعاً لن ننسى «نور العين»..