تناولنا في الحلقة الماضية واحداً من أهم وأخطر اختصاصات المفوضية وهو تلقي الشكاوى والنظر في الظُلامات المتعلقة بانتهاك حقوق الإنسان، وأوضحنا أن القانون منح المفوضية صلاحيات واسعة النطاق في التحقيق، والتحري، وفي إصدار القرارات، والتوصيات، بما في ذلك إحالة القضايا للأجهزة العدلية، أو نشر نتائج التحقيق على الرأي العام السوداني. وحيث أن هذه الحلقة ستكون الحلقة الأخيرة في هذا الشأن، فقد رأينا تخصيصها للتعليق العام، وإبداء جملة من الملاحظات على الدور المناط بالمفوضية، وخاصة في إطار التعاون والتنسيق مع المنظمات والمؤسسات والجهات العاملة في مجال حقوق الإنسان على الصُعد الوطنية، والإقليمية، والدولية، سواء أكانت أجهزة حكومية أو غير حكومية، رسمية أو أهلية. في ما يتعلق بنشاط وعمل المفوضية داخل السودان، يتعين ابتداءً، الإشارة إلى كثرة وتعدد الجهات ذات الصلة والاهتمام بحقوق الإنسان، الأمر الذي يقتضي التنسيق التام مع هذه الجهات للحيلولة دون تضارب الصلاحيات، أو ازدواجيتها. وأول هذه الجهات، المحاكم ذات الاختصاص في هذا المجال، والتي قد تكون المحكمة الدستورية المعنية بالنظر في دعاوى الانتهاك والانتقاص من الحقوق المنصوص عليها في وثيقة الحقوق بالدستور، أو المحكمة الإدارية التي أناط بها قانون القضاء الإداري لسنة 2005م، الفصل في الطعون الإدارية ضد القرارات والتصرفات الصادرة من السلطات التنفيذية، والوحدات، والوزارات، والمصالح الحكومية، إذا ما شابت هذه القرارات والتصرفات، شوائب مخالفة القانون، أو الخروج عن الاختصاص، أو عيب الشكل، أو إساءة استخدام أو استغلال السلطة التقديرية، وهي عيوب جوهرية، قد تنطوي على انتهاكات لحقوق الأفراد الأساسية، مما يجعل الخط الفاصل بين الدعوى الإدارية والدعوى الدستورية خطاً واهناً أو صورياً في كثير من الأحيان. ولقد فطن المُشّرع إلى إشكالية اللجوء من قبل المتضرر، إلى جهتين في آن واحد، لهذا نص البند(2) من المادة العاشرة من قانون المفوضية القومية، على عدم جواز نظر المفوضية لأية (شكوى تكون مرفوعة أمام أي محكمة مختصة)، وهذا القيد ضروري وعملي لتجنب حدوث تضارب بين مهام المفوضية والقضاء السوداني، وانشغال أكثر من سلطة رقابية في الدولة يبحث ذات القضية أو الظلامة، مما يُعد اهداراً للجهد والوقت ومدعاة للتنازع.وبالإضافة للمحاكم، فهناك جهات أخرى في الدولة لها اختصاص مشابه لاختصاص المفوضية، مما يتعين معه التحرز والتسيق، ومن بين هذه الجهات السلطة التشريعية، ممثلة في لجان حقوق الإنسان، والحسبة العامة، وهي لجان اثبتت في الآونة الأخيرة فعاليتها، بجانب لجان أخرى كلجنة الشؤون الاجتماعية، ولجنة النقل والمواصلات، وكلتاهما حققت في قضايا ذات بعد قومي، انطوت على شبهات فساد وسوء إدارة مثل أداء الهيئة العامة للحج والعمرة (المحلولة)، وما أثير حول تدهور أحوال شركة الخطوط الجوية السودانية. وكما سبقت الإشارة فإن ممارسة الفساد الإداري أو المالي، من قِبل سلطة أو مؤسسة عامة، قد يقترن بتجاوزات لحقوق الإنسان، إذ أن الحصول على منفعة غير مشروعة- في أحيان كثيرة- قد يكون على حساب آخر تعرض لخسارة غير مشروعة نتيجة لانتهاك حقوقه الأساسية مدنية، أو سياسية، أو اقتصادية، أو اجتماعية، أو ثقافية، وذات الشيء ينطبق على آلية مكافحة الفساد برئاسة الدكتور أبو قناية، والتي أنشأتها رئاسة الجمهورية، في إطار تدابير لمحاصرة الفساد ومعاقبة المفسدين صغاراً كانوا أم كباراً. ومن الهيئات التي سوف تتغير طبيعة عملها- إثر قيام المفوضية- المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان الذي يرأسه السيد وزير العدل، ويضم في عضويته ممثلين للوزارات والأجهزة ذات الصلة بحقوق الإنسان، علاوة على منظمات المجتمع المدني، والبرلمان. ولقد تحمل هذا المجلس طيلة العشرين عاماً الماضية، أعباءً جسام، وظل يتصدى دفاعاً عن البلاد للاتهامات والحملات الشرسة من قِبل منظمات حقوق الإنسان الدولية، ورغم جهود المجلس المقدرة في اعداد التقارير الدورية، وفي الرد على الشكاوى ضد الحكومة في المنابر الإقليمية والدولية، وفي تنسيق عمل الوزارات والوحدات الحكومية المعنية بحقوق الإنسان، إلا أن المجتمع الدولي ظل ينظر للمجلس كجسم حكومي لا يتمتع بالاستقلالية الكاملة، بسبب تبعيته للجهاز التنفيذي، وتمويل الدولة له. ولإحداث التنسيق المطلوب بين المفوضية والأجهزة الحكومية، نصت المادة (19) على قيام مجلس الوزراء بانتداب ستة ممثلين لهذه الأجهزة، للمشاركة في أعمال المفوضية، لكن بصفة استشارية بحتة، أي أنهم ليسوا أعضاء أصيلين مثل الأعضاء الخمسة عشر المعينين بالمرسوم الجمهوري، لكن مشاركتهم مهمة وضرورية للعمل كقناة وصل بين المفوضية والوزارات والوحدات الحكومية، ولضمان انسياب المعلومات، ومتابعة توصيات المفوضية الموجهة للجهاز التنفيذي. هذا على الصعيد الرسمي، أمَّا على المستوى غير الرسمي، فإن انفتاح المفوضية على منظمات المجتمع المدني الوطنية، والاستئناس برؤاها وملاحظاتها، بل والسعي لمشاركتها في المنابر الدولية و الإقليمية يشكل توجهاً حكيماً وصائباً، لما لهذه المنظمات من وزن كبير في تلك المنابر. ولقد لاحظتُ من خلال عضويتي السابقة في المجلس الاستشاري لفترة خمس عشرة سنة، أن تمثيل هذه المنظمات في المؤتمرات الخارجية كان ضعيفاً بسبب مشكلة التمويل، إذ كان التركيز دائماً على ممثلي الوزارات والوحدات الحكومية. وبهذه المناسبة يجب إعادة النظر في حجم ونوعية وفود السودان المشاركة في هذه المنابر، بحيث يكون الإختيار قاصراً على من يملكون القدرات والمؤهلات اللازمة، وأن ترتفع نسبة تمثيل الكيانات الأهلية والطوعية، ولا أرى داعياً في ظروف البلاد الاقتصادية الحرجة الحالية للترهل في حجم الوفود، وأن نحسن الاختيار، وأن تكون المشاركة رهينة بالقدرة على العطاء، وباجادة اللغات الأجنبية، والخلفية والمعرفة العميقة بطبيعة القضايا المطروحة، وتملك مهارات التفاوض والاقناع. وأن يُلزم المشاركون بالتحضير الجيد قبل وقت كاف، وبالمواظبة على حضور الجلسات والاسهام فيها، وألا يكون الأمر مجرد سياحة غالية الثمن وضيئلة المردود، وعلى ذكر شح الامكانيات، فإني آمل أن تُهيأ للمفوضية الوسائل والظروف والبيئة الصالحة للانطلاق، كما اتوقع أن تضرب المفوضية القدوة الحسنة في التقشف والمعقولية في عملية التأسيس، دون ترهل وظيفي أو اسراف بذخي في الصرف والموازنات، وبذا تقدم للشعب السوداني انموذجاً راقياً يُحتذى به وتسجل ضربة بداية موفقة وجديرة بالاحترام.