في معرض تناولنا لاختصاصات المفوضية وفق ما جاءت في المادة التاسعة من قانون المفوضية لسنة 2009م، تطرقنا في الحلقة الماضية، إلى اختصاص المفوضية بالعمل كمرجع للمعلومات ذات العلاقة بحقوق الإنسان، وإلى دور المفوضية في إشاعة الوعي لدى مختلف قطاعات الشعب، وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان في الأفئدة والعقول، ومن ثمّ توقفنا عند تكليف المفوضية بدراسة أية مواضيع ذات صفة قومية في مجال حقوق الإنسان تُحال إليها من قبل الحكومة، أو مؤسسات الدولة، أو منظمات المجتمع المدني، وتقديم التوصيات حولها. أول ما يلفت النظر إلى هذا التكليف، اشتراط الصبغة القومية في المسألة المحالة للدراسة وإبداء الرأي، وهذا يخرج القضايا المحلية والحالات الفردية من دائرة البحث، وثاني الملاحظات أن القانون بهذا التكليف قد رفع من شأن المفوضية، واعتبرها المرجع الأصيل والأساسي في تقديم المشورة والنصح، كما أن حق الإحالة للمفوضية لم يُحصر في الجهات الرسمية والحكومية، بل امتد ليغطي حتى مؤسسات المجتمع المدني، وبهذه الكيفية تأخذ المفوضية الصفة القومية بحق، وتنأى عن شبهة كونها أداة لخدمة الحكومة فقط. صحيح أن القانون لم يشر إلى إلزامية العمل بتوصيات المفوضية الناتجة عن الدراسة التي تقوم بها، ولم يضفِ على الرأي الفني الذي تقدمه لهذه الجهات القوة القانونية، بيد أن ذلك الإغفال لا يقلل قيد أُنملة من الوزن الأدبي الكبير لتوصيات المفوضية، وأخذها مأخذ الجد من قبل كافة الجهات ذات العلاقة، بحسبانها المرجعية المحايدة والموضوعية والمعترف بها قطرياً في هذا الصدد، وذات الحكم ينطبق على ممارسة المفوضية لاختصاصها تحت البند (ه) من ذات المادة، في شأن (تقديم النصح للحكومة، بشأن أي موضوع يختص بحقوق الإنسان، سواء أُحيل إليها من الحكومة، أو من تلقاء نفسها)، ذلك لأن من العوامل المؤثرة جداً على نجاح المفوضية في مهمتها، مدى تجاوب الحكومة والمجتمع مع رؤاها وتوصياتها، ولضمان هذا التجاوب والتفاعل، يتعين على المفوضية أن تلتزم بمهنية عالية، واحترافية صارمة. ومن الوظائف المهمة أيضاً، والتي اُنيطت بالمفوضية، المساهمة في تقديم أو اقتراح التشريعات والقرارات عبر مبادرات ذاتية، تصوب للجهات المختصة بصنع السياسات، وإقرار التشريعات المتعلقة بحقوق الإنسان، سواء أكانت هذه الجهات البرلمان أو الجهاز التنفيذي. هذه الوظيفة ذات موضع مفصلي في أي جهد لتعزيز حقوق الإنسان في السودان، حيث إن التزام الدولة بموجب الصكوك الدولية التي صادقت عليها يتضمن عادة، اتخاذ التدابير التشريعية والإدارية اللازمة للوفاء بالتعهدات التي قطعتها الدولة، وهي توقع أو تصادق على المعاهدات الدولية في مجال حقوق الإنسان، وفي أحيان كثيرة يكون التدخل التشريعي ضرورياً، إمّا لِسن نصوص جديدة، أو لتعديل نصوص قائمة لحماية أو ترسيخ الحقوق الأساسية، وحيث إنه توجد في الهيئة التشريعية، لجنة لحقوق الإنسان، فإن التنسيق مع هذه اللجنة يشكل قناة آمنة ومجدية للوصول إلى البرلمان، وعبر هذه اللجنة المتخصصة يمكن للمفوضية أن ترسل رسائلها، وتدفع بتوصياتها ومشاريعها للمشرعين وأعضاء البرلمان.وبنفس القدر يمكن للمفوضية أن تؤدي الواجب الملقى على عاتقها بمقتضى البند (ك)، وهو (العمل على مواءمة التشريعات والممارسات الوطنية لحقوق الإنسان)، والذي يعني عملياً أن تقوم المفوضية، بإجراء مسح شامل لكل القوانين والنظم السارية في البلاد للتأكد من اتساقها وعدم تعارضها مع حقوق الإنسان، وهذا يتطلب عوناً وتنسيقاً مع إدارة التشريع بوزارة العدل، المستودع الثمين والقيّم للإرث القانوني في السودان، والتي تملك قاعدة بيانات لا يُستهان بها لكل القوانين واللوائح القومية أو الاتحادية، أمّا التشريعات الولائية فتستطيع المفوضية مراجعتها بواسطة فروعها في الولايات المختلفة، والتي أجاز القانون للمفوضية إنشاءها بموجب الفقرة الثانية من المادة الرابعة من القانون. ونلاحظ في هذا الصدد، أن القانون أكد مرة أخرى صلاحية المفوضية في فحص النصوص التشريعية بغرض التأكد من اتساقها وملاءمتها، وذلك في البند (ز) من المادة التاسعة الذي أناط بالمفوضية (رفع التوصيات والمقترحات، والتقارير إلى الحكومة، والمجلس الوطني، بشأن أية مسألة، تتعلق بحقوق الإنسان، بما في ذلك طلب إعادة النظر في النصوص التشريعية، أو القرارات الإدارية، لتتسق مع المباديء الأساسية لحقوق الإنسان)، ولا شك أن إشارة القانون إلى «المباديء الأساسية لحقوق الإنسان»، توسّع من دائرة المضاهاة والمقايسة للنصوص والقرارات السارية، ليس فقط على ضوء نصوص الاتفاقيات الدولية التي انضم إليها السودان، بل وكذلك للمباديء الرئيسة المعترف بها عالمياً في مجال حقوق الإنسان، ولما كان مصطلح «المباديء الأساسية» يبدو فضفاضاً، وقد يثير إشكالات إذا نظر إلى هذه المباديء من المفهوم الغربي والأوروبي لحقوق الإنسان، فإن الخيار السليم في هذا الشأن، أن يتم حصر وتحديد هذه المباديء في التشريعات السودانية دستوراً وقوانين، لتجنب التقاطعات بين المعايير الوطنية والإسلامية من جهة، والمفاهيم الأوربية والأمريكية من جهة أخرى. وهذا الحديث يقودنا مباشرة إلى الاختصاص الوارد في البند (ي) المتعلق بتشجيع الحكومة على الانضمام إلى المعاهدات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان. وكما هو معروف فإن الحكومة السودانية انضمت إلى معظم الشرائع الدولية لحقوق الإنسان، باستثناء اتفاقيتي سيداو (الاتفاقية الدولية لإزالة كافة أنواع التمييز ضد المرأة) و«CAT» (الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب) اللتين تحفظت الحكومة السودانية عليهما، وتحفظ الحكومة مبني على اعتبارات تتعلق بالشريعة الإسلامية، إذ أن سيداو تدعو إلى مساواة كاملة ومطلقة بين الرجال والنساء، كما أن اتفاقية مناهضة التعذيب تنظر إلى تطبيق الحدود الشرعية المتعلقة بالقطع والجلد، وتعتبرها في منزلة المعاملة القاسية والوحشية التي تحط من كرامة الإنسان، وبالتالي تتناقض مع المعايير الغربية لحقوق الإنسان، والتي عبرت عنها اتفاقية مناهضة التعذيب والمعاملة القاسية. في الحلقة القادمة نفصل أكثر.. والله من وراءالقصد،،،