باب الذكريات بيني وبين الفنان الخالد محمد وردي باب واسع.. وعلاقته مع أسرتنا تنيف على خمسين عاماً.. ومدخل هذه العلاقة صداقته مع شقيقنا الأكبر الرائد والشاعر المسرحي السر أحمد قدور والتي امتدت منذ العام 1957م ووردي يتلمس خطواته الأولى في طريق الفن.. ومن أجمل اللحظات التي عشتها وأنا بعد طالب صغير.. ذلكم الحفل الكبير الذي أقامة الوالد- رحمة الله عليه- للفنان الكبير ورصفائه من أهل الفن إبراهيم الكاشف، وأحمد الجابري، وأبو داؤود في العام 1960م عندما جاءوا جميعاً إلى مدينة الدامر في رفقة الفريق عبود إبان زيارته للمديرية الشمالية وعاصمتها مدينتنا الدامر.. وأذكر في تلك الأيام أن محمد وردي الفنان الإنسان المربي حمل طفلاً صغيراً من أفراد الأسرة ووضعه على حجره.. وذلك الطفل الآن هو الباحث في التراث والأديب محمد أحمد قدور، ومن طريف تصاريف القدر أنه تم العثور على هذه الصورة النادرة بين أوراق أسرتنا منذ أسبوعين فقط من رحيل الفنان الكبير. لقد ظلت الصلة واصلة.. وظل الفنان الكبير كلما يلقاني في اللحظات النادرة والقليلة التي نلتقي فيها يتفجر وداً وحناناً ووفاءً لتلك العلاقات الأسرية القديمة، ونحن في الدامر لنا مودة ومحبة لأهلنا السكوت والمحس والصواردة.. وهي صلة قديمة تعود لمئات السنين وحدت عروقنا ودماءنا وأنسابنا ومزاجنا.. ومازلنا نجددها جيلاً بعد جيل. ومن أنبل ذكرياتي التي أحفظها عن محمد وردي.. أنه قد جاء إليَّ في مكتبي في وزارة الداخلية في مطلع السبعينات بعد خروجه من السجن.. بعد أحداث يوليو.. وكنت في كاونتر إدارة الجوازات.. وكان يقف أمامي الفنان العملاق محمد وردي.. وكنت أكمل له إجراءاته غير مؤبه للعيون التي تنظر إلينا من كل جانب، وحضر عمي الكبير إبراهيم العبادي ووجد معي وردي وابتسم ابتسامته المعبرة التي تغني عن كل تعبير.. وقال له في اعتزاز: والله.. أنا العاجبني فيك ياولدي ياوردي إنك تغيان.. نعم لقد كان وردي طغيان.. ولكن في كبرياء وانفة وإباء.. تشبهه تماماً، ولكنه كان خلف هذا الجدار يتفجر إنسانية وعذوبة.. وكان قلباً عامراً شمل بحبه كل الأمة.. وكان نصيراً للبسطاء والمجروحين وكان صديقاً لهم بكل الكبرياء وكان فناناً لهم بكل العزة والعفة والشموخ. وداعاً فنان الشعب الذي كان صادقاً مع نفسه.. ومع الناس.. ومع وطنه وقضاياه.. وحقه في أن يعيش حراً كريماً أبياً شامخاً كما كان وسيظل محمد عثمان وردي.