أمس استضاف المدير العام لجهاز الأمن والمخابرات الوطني «جلسة حوار» لمناقشة التحديات التي تواجه عملية الاستفتاء على تقريرالمصير للجنوب والدور الذي يضطلع به الجهازفي تأمين الاستفتاءوضمان نزاهته وشفافيته والتأكد من إجرائه في الموعد المضروب. شارك في الندوة وزير شؤون مجلس الوزراء د. لوكا بيونق والفريق أول صلاح عبد الله قوش مستشار رئيس الجمهورية وبدرية سليمان عضو المكتب القيادي لحزب المؤتمر الوطني ومديرو الأمن بالولايات الجنوبية. في مداخلته قال الفريق صلاح عبد الله إن اتفاقية السلام وضعت محورين هما تحقيق السلام وتأكيد وحدة البلاد، مضيفاً أنه إذا لم تحقق الوحدة فإنه يجب العمل من أجل السلام الدائم، وطالب بتوحيد الرؤى بين الشريكين، وأكد على التزام الحكومة بتنفيذ اتفاقية السلام بما في ذلك الوحدة، وأبان أن قضية أبيي عطلت العلاقة بين الشريكين في الفترة الماضية لأن معالجات أبيي كانت منقوصة، وأعلن عن جاهزية حزبه (المؤتمر الوطني) لتفاوض جديد لضمان إنفاذ الاتفاقية مع تأكيده على ضرورة ترسيم الحدود قبل الاستفتاء. من جانبه قال د. لوكا بيونق القيادي بالحركة الشعبية إن تحديات الوحدة كبيرة ويجب أن يواجهها الطرفان والشعب السوداني بجانب القضايا الكلية، خاصة ترسيم الحدود ومعالجة القضايا المتبقية في الاتفاقية، وشدد على حرص الشريكين على النزاهة والشفافية، مؤكداً على أن الحركة لا تقبل أن يكون إجراء الاستفتاء سبباً لعودة الحرب، وعلى أن البترول والمياه من الروابط الأساسية للعلاقة بين الشمال والجنوب. وركز على تحديات مرحلة ما بعد الاستفتاء، خاصة قضايا مثل الجنسية، المواطنة، الملكية، الخدمات، البترول وعقوداته، المياه، الاتفاقات الدولية، الأصول والعملة. أما الفريق محمد عطا المولى مدير عام الجهاز، فقد أوضح في مداخلته أن الجهاز لديه مسؤولية وطنية تجاه الاستفتاء عبر العديد من المرتكزات، وأن من واجبه حماية الدستور وتنفيذ القانون وأن يعبر هذا الاستفتاء بنزاهة وشفافية عن رأي شعبنا في جنوب السودان، على الرغم من أنًّ العملية يشوبها الكثير من التعقيدات، لكنه أكد أن هناك إرادة قوية من الطرفين نحو الوصول إلى استفتاء حر ونزيه، وأن تأمين الاستفتاء من شأنه عدم التمهيد للعودة للحرب مرة أخرى في حالة الوحدة أو الانفصال. قصدت من إيراد المقتطفات المطولة أعلاه من حديث المسؤولين الثلاثة ومداخلاتهم، إلى تثبيت ما هو مشترك في هذه الأحاديث والمداخلات، وهو كما يرى القارئ الإجماع على ضرورة قيام استفاء حر ونزيه في موعده تجنباً لعقابيل الاختلاف على نتائج الاستفتاء سواء كانت استدامة الوحدة أو الانفصال، لكن يمكن للقارئ المُدقق أن يلاحظ في حديث الفريق صلاح عبد الله التركيز على أهمية الوحدة بينما انصب جزء كبير من مداخلة الدكتور لوكا بيونق على قضايا ما بعد الاستفتاء، من مثل الجنسية والمواطنة والخدمات والأصول والعملة، مع إشارة مهمة لمستقبل العلاقة بين شطري الوطن التي أوجزها في ما اسماه «الروابط الأساسية» للعلاقة بين الشمال والجنوب ولخصها في «البترول والمياه»، ولا أعتقد أن هاتين (الثروتين) -على أهميتهما- هما مظهر العلاقة الوحيد أو الأساسي بين الشمال والجنوب، وإن كان تركيزه على قضايا ما بعد الاستفتاء التي عددها تصب كلها في «فض الاشتباك» والاستعداد لذلك قبل حلول موعد الاستفتاء حتى يجري ذلك (الفض) سلمياً وبدون عقبات. لكن ما يهمنا في هذه «الإضاءة» هو المشترك في أحاديث الرجال الثلاثة وهو إجراء استفتاء حر ونزيه يجنب البلاد غوائل حرب جديدة. وهذا ما نبه له حتى بعض زعماء المعارضة، حيث قال رئيس حزب الأمة الإمام الصادق في أكثر من مقال وأكثر من مناسبة «إن القضية ليس الوحدة أو الانفصال إنما القضية هي الحرب والسلام»، وهو في هذا ينطلق من قراءة متفحصة لعلاقة الشريكين الحاكمين - المؤتمر الوطني والحركة الشعبية- وهي علاقة شابها التوتر والشكوك المتبادلة في معظم أوقات الفترة الانتقالية، ويتوقع المهدي -كما عبر عن ذلك مراراً- أنًّ الشريكين سيختلفان على نتائج الاستفتاء مثلما اختلفا على نتائج الانتخابات الأخيرة، التي انسحبت منها الحركة في الشمال متهمة شريكها «الوطني» بالتزوير. وإذا ما أضفنا إلى ذلك الاختلاف القائم حتى اليوم بين هذين الشريكين حول من يحق له التصويت في استفتاء أبيي لتقرير مصيرها، شمالاً أو جنوباً، هل هم دينكا نقوك حصراً مع قلة من السكان الدائمين أم عرب المسيرية المقيمين والمتحركين في المنطقة المتنازع عليها بين القبيلتين، فإن الأمر قد يتطلب مفاوضات جديدة وترتيبات جديدة كما أشار الفريق صلاح عبد الله عندما أعلن في اللقاء عن جاهزية حزبه لتفاوض جديد يضمن تنفيذ الاتفاقية ويرسم الحدود قبل الاستفتاء. صحيح، كما قال الفريق عطا، إن لدى جهاز الأمن الوطني والمخابرات مسؤولية وطنية تجاه الاستفتاء، من حيث التأمين وتنفيذ القانون وإعمال الدستور، لكنها -كما أرى- مسؤولية تقتصر على توفير الضمانات الأمنية من جميع جوانبها لإجراء الاستفتاء في جو معافى من التوترات والمشاحنات والتدخلات السلبية التي قد تعمل عليها بعض الجهات المحلية أو الأجنبية من أجل ترجيح خيار على آخر بطرق تجافي مبادئ العدالة والنزاهة. أما الترتيبات الإجرائية ووسائلها والإشراف المباشر عليها فيجب حصرها في جهتين مفوضية الاستفتاء التي اتفق على تشكيلها الشريكان، لأن أي تدخل من أي طرف من الأطراف المعنية بنتائج الاستفتاء سيفسر من الطرف الآخر بأنها محاولة تأثير على تلك النتائج لصالحه، وهذا ما يقود إلى الخلاف والتنازع الذي يحاول الجميع الآن تجنبه، كما بدا من مداخلات المشاركين في الاجتماع. فالمفترض والمنتظر من مفوضية الاستفتاء هو الحرص على حيادها واستقلاليتها وإبعاد أي شبهة تدخل من أي من الأطراف المعنية بنتائج الاستفتاء، وهي تستطيع أن تفعل ذلك، عبر تأمين أكبر قدر من الإشراف الدولي المباشر، عبر الأممالمتحدة خصوصاً، وليس سواها من الدول التي باتت تعبر عن رغباتها علناً فيما يخص نتائج الاستفتاء. لست غافلاً -بالطبع- عن الحقائق المتصلة بتأثير تلك الدول على عمل الأممالمتحدة وحركتها، لكن ليس أمامنا سبيل آخر لتفادي التعامل مع تلك المنظة التي تتوشح الشرعية الدولية في عالم اليوم، فتنصيبها مشرفاً وشاهداً سيساهم في حصر الضرر لأقصى حدٍ ممكن، ويبعد شبهة التدخلات السالبة سواء من قبل تلك الدول التي أعلنت مسبقاً انحيازها للانفصال، مثلما يساهم في توفير الحد الأدنى من النزاهة والشفافية والحياد المطلوب في عملية تكتنفها التعقيدات والتوترات، ويجنبنا ما لا تحمد عقباه.