كان المجتمع السوداني يضرب حول المرأة طوقاً من الحصار الدائر في فلك «الممنوع، العيب، العار...» حتى أن المرأة كانت في المناسبات تجلس على السباتة متجهة إلى الحائط.. ولا يُحظى الشعراء.. ولا المحبون بنظرة، لذا كان الخيال جامحاً والهوى مشبوباً.. والوصف حسي دقيق التصاوير لا يُرى بالعين إنَّما في الأطياف والأوهام.. لذا فقد كان ظهور فنانات في ذلك الزمان أمراً في غاية الغرابة والعجب.. وقصة عائشة الفلاتية مع أهلها قبل حضورها للإذاعة معروفة للجميع وقد كتبتُ عنها من قبل.. وكذلك فاطمة الحاج، ومن بعدهنَّ منى الخير وأم بلينة السنوسي، لقد تقبل المجتمع بنظرته المتزمتة المُحكمة الدوائر أن يصدحن بالغناء لعدة أسباب.. منها حلاوة الصوت وتطريبه ونداوته.. وثانياً لأن طبيعة الأغنيات كانت تتوافق وتنسجم مع ماهو جارٍ من أحداث، فقد تغنَّت الفلاتية مثلاً للجيش العائد من الحرب العالمية الثانية والتي كان السودان طرفاً فيها من البوابة الشرقية «يجو عايدين.. إن شاء الله عايدين يا الله.. يجو عايدين الفرقة المهندسين يا الله ..»، «والله لي الليمون سقايتو عشية ياحاج أنا...» وتغنَّت أم بلينة السنوسي ضمن من تغنوا بالملحمة.. وسبب آخر وهو الأهم في قبول المجتمع لهؤلاء المغنيات لأنهنَّ بلا استثناء كُنَّ فى قمة الانضباط والاحترام والاحتشام.. لذا فإن التاريخ لازال وسيظل يحكي عنهنَّ كنموذج أصيل للفن السوداني الذي ما شابته شائبة، وحقيقة لا أقصد بكلامي هذا غمزاً أو همزاً على فنانات الجيل الحالي إلا أنني أتعجّب من قصة إهداء بعض الفنانات أحصنة «خبر في أحد الصحف» خيَّال بنادي الفروسية يهدي «ندى القلعة فرس»، وبعدها بذات السيناريو فارس آخر يهدي «إيمان لندن»، وأخيراً وليس آخراً «درية الشرق». معروف أن الخيل للفرسان عند الحرب أو السواري أو بغرض «أن يتعلم الأبناء السباحة والرماية وركوب الخيل» لأسباب خاصة بالرجال والرجال فقط.. ما فائدة أن تتعلم فنانة ركوب الخيل.؟ وهل يقبل المجتمع السوداني بكل أعرافه وتقاليده بنساء فوق سن الأربعين وأمهات بأن يرتدين أزياء«الجوكية» بنطال وقميص ضيق ونظام بوت وكده.؟ وراكبات أحصنة.؟وكمان هدايا من رجال يفترض أنهم فرسان.! نحن سودانيات مهما تطورنا وتحضرنا سنظل أمهات.. أخوات.. بنات.. زوجات.. لرجال يخوضوا النار. زاوية أخيرة : هذا مجرد رأي.. ربما يراه البعض تزمتاً ورجعية وتخلف، لكنني فخورة بأنني «بنت البيئة السودانية التقليدية التي تجعل للمرأة حدود».