خفتت أصوات الضحك والثرثرة.. الأيدي التي تضع الطعام توقفت عن عملها.. الأطفال الراكضين تخلوا عن ركضهم ووقفوا مأخوذين يتابعون المرأة التي ترتدي الزى العسكري كاملاً.. كانت خشخشة النياشين تسمع من على البعد .. دخلت لدار العرس ومن خلفها مجموعة من النسوة يحملن”الدلوكة” و”الشتم” .. وقفت بوسط المكان .. نظرت آمرة النسوة خلفها بوضع مابين أيديهم على الأرض، اندفعت صاحبات الدار يرحبن بحفاوة بالمغنية”شريفة بت بلال”.. أجلسوها وفرقتها بأفضل غرف الدار.. تسابقت النساء في خدمتها وتحيتها.. وقفت بوسط المكان المعد للحفل “اللعبة” تنحنحت تنقى حنجرتها، وارتفع صوتها بالغناء.. مابين أغنية وأخرى كانت تحيى حماس المستمعات وزغرداتهن برفع “طربوشها” مثلما يفعل الأتراك، كانت رتبة “العقيد” التي منحها إياها “عبد القادر باشا حلمي” محل تقديرها واعتزازها.. ولذلك كانت من أول المعتقلين لدى الخليفة عبد الله التعايشى في مدينة ” مكوار” .. في الأسر كانت تجلس مهمومة يرحل بها القلق لعوالم بعيدة، تنتشلها منها إيقاعات جديدة تركض في دمها، فتهتز طرباً وهى تفكر بأغنية جديدة .. بعد الثورة المهدية واصلت شدوها فى بيوت الأفراح كانت تحلق بالنسوة المشدوهات فى سماوات زهوها مادحة نفسها وشجاعتها واصفة أهوال الحروب التى خاضتها بجانب الجيش التركى.. من كل أغنية كانت تنبت ريشة بجناح حلم كبير حلقت به النساء المحبوسات… مسحت إحدى الضيفات دمعة حارة سالت بوجهها.. تنهدت أخرى بوجع مكتوم..انفلتت الآهات الحري تركض بالمكان.. عندما أكملت الأختان ” أم بشاير وأم جباير ” وصلتهما الغنائية كانت الأعين المحمرة حولهما تتوسلهما بصمت أن تواصلا الغناء .. كان الحزن الحبيس قد انفلت قيده فصال بالمكان بحرية مغتالاً ابتسامات مصطنعة لنساء يرتدين رداء سعادة وهمية، ساد الصمت لثواني ومن ثم تنحنحت”أم جباير ” ناظرة لأختها “ام بشاير ” تطمئن على جاهزيتها للغناء .. ومن ثم غردتا بصوتهما الشجي راحلتين إلى فضاء حب مهزوم.. ووجع لا يهدئه الزمن.. كانت أنغام “التم تم” تركض حافية عبر قرى وأحياء “كوستى” تصرخ بالعاشقات اللاتي اغتيل حبهن فيذرفن دمعاً حاراً حالمات بوصال لم يتحقق.. كانت الأغنيات “تقالد” الوجع العميق للنساء المحزونات، فتسند القلوب المكلومة وتشرع نوافذ الأمل الجميل.. امتدت يدها تعدل فى وضع”بلامتها” بتوتر ظاهر.. زهد الرجال المتجمهرين حولها فى إقناعها بتسجيل أغنياتها.. إلا إن الفنان”زنقار” كان يواصل إلحاحه فلقد كان محرجاً من صاحب شركة”ميشان” الذي قدم من القاهرة خصيصاً لتسجيل أغنيات” رابحة التم تم” بعد أن أطرى زنقار بشدة على صوتها والذي أدهش صاحب الشركة بالفعل، إلا إن طلاوة الصوت ورقته كانت لصاحبة رأى صلب وحاد ، انصرف الجميع ووضعت “رابحة ” ثوب قديم تحت رأسها بعد ان سكبت زيت “سمسم” بمنتصف رأسها لقد كانت تشكو من صداع شديد.. لقد رغبت بان يتم تسجيل اغنياتها باسطوانات ولكنها لم تود اغضاب أهلها ومن تحبهم ، سال زيت السمسم على جبهتها مختلطاً بدمع حار .. رسمت دموعها الممزوجة بالزيت خيول راكضة على ثوبها القديم الموضوع تحت رأسها.. غفت فركضت بها الخيول فى سهول واسعة وبعيدة.. كانت إيقاعات الدلوكة تركض جذلة تلاحقها نغمات البيانو العتيق، ردد الكورس النسائي ” أنا ليك مشتاق” من خلف الفنانة “ميرى شريف” والتي كانت تهز رأسها بإعجاب باللونية المختلفة التي استطاع الهجين الفريد من الدلوكة والبيانو ان يحققها ، أكملت تسجيل أغنيتها وخرجت وهى منتشية ومزهوة بما أنجزت، رجعت لمنزلها واستلقت ولازالت الأنغام تضج برأسها..صوت البيانو الرقيق الرصين تلاحقه دلوكة ذات ايقاع صاخب .. كانت فى تلك الليلة تشارك فى وضع الخطوة الأولى لتمازج بين الآلات فى السودان تمازج واتساق يشابه روحها الثرة المتسامحة… كان الغضب يسيطر عليها ورغماً عن ذلك واصلت بروفتها، تململ العازفين محرجين لكنها لم تبدى اى حركة ، لم تغير جلستها ولم يرتجف صوتها، رفعت صوتها أكثر تلاحق به الفنان”سرور” الذى ظل صوته الغاضب مواصلاً احتجاجاته على وجودها،خرج زاعقاً وتجاوزها مهتاجاً وهو يقول: والله كان المرة دى غنت الليلة انا تانى مابغنى فى اذاعتكم دى “ لم تتوقف” عائشة الفلاتية” عن الغناء رغم توقف العازفين الذين بدأ يساورهم تردد حول مواصلتها للغناء ، أكملت وصلتها الغنائية ووقفت مودعة للجميع ، حاول بعضهم تطييب خاطرها إلا أنها لم تسمح لهم بالحديث لقد كان جرحها نازفاً لا يحتمل اللمس،لقد اعتادت أن تسمع الكثير إلا إن ما سمعته من تجريح اليوم من فنان كانت تقدره وتقدر فنه جعلها محبطة أشد إحباط، لقد تربت بخلوة لذا كان ولوجها لعالم الفن بكلفة نفسية واجتماعية باهظة فأسرتها المتدينة رأت فى الغناء انفلات اخلاقى كبير.. فى تلك الليلة نامت “عائشة موسى احمد يحى ادريس” الشهيرة “بعائشة الفلاتيه” وهى تشعر بألم بحلقها وملوحة بفمها بسبب دموعها ،ورغم إن سرور لم يقدم وصلته الغنائية إلا إن صوت “عائشة” تمطى فى البيوت الطينية، ممازحاً النساء “المبلمات” ماداً يداً قوية تنهضهن من جلساتهن الوادعة داخل اسوار بيوتهن وتدفع بهن الى الشوارع الواسعة… تمايلت الأخوات الثلاث راقصات بتجانس محبب.. ارتدين فساتين حديثة التصميم فرحة الألوان، روحهن الحية كانت تلفت الانتباه، وأصواتهن العذبة كانت تأسر القلوب.. كانت”البلابل” صاحبات حضور طاغي لم يقاومه المجتمع التقليدي بشيء سوى بثرثرته المنتهكة ، كن يغردن رغم فضاء صمت فرض على النساء ، قاتلن بشراسة عنجهية ذكورية أنهكتهن، ولكنها لم تنال من فرح أغنياتهن، حتى عندما حزمن حقائبهن وهجرن هذا الوطن محزونات محبطات ظل هذا الفرح راقصاً بأفواه مغنيين ومغنيات شباب فكن حاضرات على الدوام رغم انف الغياب. فى عصر يوم الخميس 15يناير حضرت مجموعة البلابل الغنائية برفقة امهر العازفين السودانيين ليكن ضيفات على مسرح الأحفاد للبنات، ورغم عدم مؤامة التوقيت مع الطالبات اللاتى يفترض بهن الرجوع لمنازلهن ظهراً الا إن حافلات الترحيل كانت تخرج فارغة من حرم الجامعة، فلقد اصطفت الطالبات على جانبي الطريق الاسفلتى الداخلي شاخصات بالبوابة الرئيسية مترقبات لقدوم “البلابل” وما ان لمحن العربة التى تقل “البلابل” حتى انفجر المكان بفرح غامر كانت الصرخات والزغرودات السعيدة تطغى على صوت منظمين الحفل الذين حاولوا حفظ النظام بلا جدوى.. وقفت “حياة وهادية وآمال” متلاصقات متأثرات بحب جيل لم يرهم من قبل، كن ما ان يبدأن بأغنية حتى تتلقفها الأفواه مصرحة لهم بانتصارهن.. لقد أيدهن التاريخ، ،ظلت أغنياتهن حية ودافئة لم تتأثر ببرودة المهاجر التى رحلوا اليها، ان تجربة “البلابل” كفرقة غنائية نسائية حديثة تكافح وسط مجتمع محافظ يقدر التقليد ولايحتفى بالتميز تجربة تستحق الدراسة، كما إن الاستقبال الكبير الذى لاقته البلابل فى كل حفلاتهن بالسودان هو دليل قوى على انتصار الجديد اياً كان الخلاف حوله او حول تفاصيله. إن مسيرة النساء في مجال الغناء ممتلئة بدمع مالح وعبرات مكتومة الا انها تتميز لذات السبب فالمغنيات اللاتى تجيش دواخلهن بالغضب والحزن تكون اغنياتهن عادة أكثر شجناً وصدقاً.. فعائشة الفلاتيه مثلاً يتسلل من أغنياتها حزن عميق سببته جروح متلاحقة لرفض أسرتها لغنائها وغضبتها من هذا الرفض كانت تنسرب بقوة من أغنيات حماستها التى تهيج نفوس المستمعين، احدى القصص التى تروى عنها انها كانت سبباً فى أزمة بين الضباط الانجليز والسودانيين بقوة دفاع السودان ابان الحرب العالمية الثانية اذ جاءت بصحبة اختها” جدية” عازفة العود لتوديع الافواج العسكرية بغنائها الحماسى وتغنت أغنيتها”يجو عايدين” وكان يفترض بالاغنية انها تتمنى عودة المقاتلين سودانيين وغيرهم الا انها شددت على مقطع “يجو عايدين الشايقى وحسن التوم” وتجاهلت الجنود الانجليز مما اغضبهم وجعلهم يغادرون الحفل متوعدين ولولا انه اجريت محاكمات لكل من اشتركوا فى اظهار الحماس لتلك الاغنية لكانت ستنشب أزمة كبيرة. ولقد كانت أغنيتها “فتاة النيل” بمثابة دعوة للنضال والتصميم لتحرير المرأة، وليست عائشة وحدها من قامت بمثل هذا الجهد فمثلها”فاطمة الحاج، مهلة العبادية، منى الخير… فوجود اى امرأة على خشبة المسرح كان دفعاً لمسيرة المرأة وتأكيداً على قدرتها على الإسهام فى مجالات الابداع والفن عموماً والخروج بها من دائرة الجسد الضيقة التى يتم حشرها بها. لازالت معاناة النساء فى هذا المجال مستمرة .. ويوجد هناك دوماً من يوصمونهن بالتفسخ الأخلاقي ويفرضون عليهن الابتعاد عن هذا المجال الذى تنبع أهميته فى ان المبدعات يستطعن عبره تغيير المجتمع لصالحهن ، لذا فالتحية لكل المغنيات الصامدات اللاتى يسكبن حنو الانثى على خارطة الاغنية السودانية.. فلتغردن عبر هذه الاسوار ولتصنعن من اغنياتكن سودان أفضل. هادية حسب الله [email protected]