كنا في رحلة بالطائرة الأثيوبية أنا وبعض أصحابي قادمين من دبي إلى الخرطوم، وبعد أن نزلنا قليلاً أقلعت بنا الطائرة من مطار أديس ابابا، وكان الوقت ليلاً والسماء ملبدة بالغيوم، وذلك لأننا في موسم الخريف، كان معظم الركاب من السودانيين، وبعد أن أقلعت الطائرة بقليل بدأ الشوق والحنين للديار يفيض بدواخلنا، ما أعظم وطننا السودان، ولا يعرف ذلك ولا يحس به إلا من غادره إلى غيره من البلدان، ولا أبالغ عندما أقول إن بالعالم دولاً ليس لها مثيل في الجمال والرقي، ولكن للسودان طعمه الخاص، وهو خليط متجانس، الأهل والخضرة، والماء، والوجه الحسن، وتجعل طيبة أهله وكرمهم وحبهم لبعضهم البعض وعلاقاتهم الاجتماعية القوية وتكاتفهم وتمسكهم بمكارم الأخلاق، كل ذلك يجعل السودان جنة الدنيا، رغم أن البعض لا يرى ذلك ولا يحس، وها أنا أحكي لأبرر صدق كلامي. بعد فترة قصيرة من الاقلاع تعرضت الطائرة لمطبات هوائية شديدة العنف جعلت الطائرة تهتز كورقة في مهب الريح.. فتارة تنزل إلى الأسفل بقوة وتارة ترتفع إلى الأعلى، ومرة ذات اليمين ومرة ذات اليسار.. وبدأت المضيفات الاثيوبيات في التوجيه بربط الأحزمة، وكان الخوف واضحاً على وجوههن، وبدأت بعض الأصوات ترتفع بالنطق بالشهادة، وساد الهرج والمرج وأصوات الأطفال تعلو بالصياح، والطائرة تصارع العواصف الممطرة والسحب، وهنا قال لي بعض أصحابي: نحن الآن في ورطة حقيقية وأنه الموت أرجو ان تطبق العدد من شيخنا قلت: يا لطيف الطف بنا فيما جرت به المقادير.. اللهم إننا لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه.. إن ربي لطيف لما يشاء، يا مغيث، يا منجي، يا من إذا ضاق البلى وتراكمت جمل الدواهي، وضاقت النفس الحمى، وآيست عند التناهي فرجتها بدقيقة من حسن لطفك يا إلهي ليس لها من دون الله كاشفة. تزايد الخوف والطائرة تتأرجح، والخوف إذا بدأ عند أحد الركاب تنتقل حالة الخوف بشدة لكل الركاب.. بدأت أردد بعمق يا لطيف يا لطيف وأنا مغمض العينين، وبالي كله مع هذا الاسم العظيم، الذي لولاه لهلك الناس ولازمتهم المصائب والكروب والمحن لما عم الكون من معاصي وذنوب. قال لنا كابتن الطائرة إنه في طريق العودة إلى اديس، ويتمنى أن نصلها بالسلامة، وسنبيت بها إلى أن تعاد غداً إلى الخرطوم، وبدأ الوضع يتحسن والطائرة تستقر في مسارها وبدأ الارتياح يظهر على الركاب، وهنا قال أحد السودانيين ليلطف الجو، الشيوخ ديل- يقصدني أنا وصحبي- دايرنها ترجع بدلاً ما نبيت في أم بده نبيت في هيلتون اديس ابابا، حظ الغلابة حظنا من السماء.. لم اعلق عليه وعلى من قال له ألف مرحب بالعودة إلى اديس.. قلت في سري اللهم لا تؤاخذنا بما فعله السفاء منا، اللهم أجمعنا فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وتعلم أننا نتقيك فاغثنا بالمخرج الذي وعدت يا لطيف يا لطيف يا لطيف فنزلت الطائرة بسلام وأخبرنا الكابتن أنه قد تعطل في الجو أحد المحركات نتيجة العواصف الرعدية، ولكننا نجونا والحمد لله وواصلنا في اليوم التالي إلى الخرطوم، والبعض منا فرحين برجوعهم إلى الخرطوم، وأقله يندب حظه إذ لم يمتد تصليح الطائرة إلى اسبوع أو شهر ليكون شهر العسل مجاناً. الحمد لله على هذا المخرج اللطيف ولا نزال في ضيافة وكنف هذا الاسم العظيم وإلى اللقاء في مخرج جديد.. قال تعالى: «ومن يتق الله يجعل له مخرجا» «سورة الطلاق الآية 2».