أعجبني بقدر ما أزعجني تعبير وزير العدل محمد بشارة دوسة، وهو يتحدث لبرنامج «مؤتمر إذاعي» في إذاعة أم درمان عن قضية الفساد، حين قال «كلما أتذكر هذه التكاليف الواسعة يقشعر بدني من حجم المسؤولية»، وهو إقرار واعتراف على الهواء بالصعوبة البالغة التي يواجهها أي من يتولى مسؤولية تحقيق العدالة في دولة لا تحكمها المؤسسات، وتدار بمزاج وتقديرات الأفراد، في دولة شمولية، قرار الحزب الحاكم والأفراد المتحكمين فيه هو القرار النهائي، بما في ذلك وجود وزير العدل ذاته في منصبه أو ذهابه، فلا غرابة إذاً أن يشعر الوزير دوسة ب«القشعريرة» التي تضرب أوصاله كلما فكر في تحقيق العدالة أو في وصفه الطريق إلى ذلك بأنه «طريق طويل وشائك» على حد قوله. دوسة تعهد في حديثه ذاك بعزمه على «مكافحة الفساد» وسن التشريعات التي تكبح جماحه، وأكد على «عزم الحكومة» تفعيل إقرارات الذمة وسط الدستوريين وقيادات الخدمة المدنية والنظامية والقضاة والمستشارين القانونيين»، وذهب أكثر من ذلك إلى القول إن إقرار الذمة سيشمل «زوجات المسؤولين والأبناء بحيث لا يكون هناك تحايل وتحويل للأصول والأملاك»، وطمأن هؤلاء بأن «الإقرار لا يحرمهم من امتلاك الأسهم في الشركات أو امتلاك أصول ثابتة كالعقار باعتباره حقاً طبيعياً يكفله الدستور». حديث دوسة أعلاه يتناول قضيتين مهمتين، واحدة عامة هي «مكافحة الفساد» بجميع وجوهه وسن التشريعات التي تكبح جماحه، والثانية هي قضية «براءة الذمة» التي على المسؤولين الحكوميين والدستوريين تقديمها لدى استلامهم وظائفهم ومواقعهم الدستورية ولكنه لا يلبث أن يناقض نفسه بصدد التشريعات الخاصة بمكافحة الفساد، فهو يطالب ويتعهد بسن هذه التشريعات بينما يرى في فقرة أخرى من إفاداته «أن القوانين والتشريعات والآليات (الموجودة) كافية وفعالة لمحاصرة الفساد أينما وجد» وهو تناقض يمكننا أن نعيده- ببساطة- لحالة «القشعريرة» التي يستشعرها وزير العدل كلما فكر في إقامة العدل، فإذا كانت القوانين والآليات الموجودة كافية وفعالة لمحاصرة الفساد، فما الذي يجعله يفكر في سن «التشريعات التي تكبح جماحه»، لكن الأغرب من ذلك هو مطالبة الوزير دوسة «منظمات المجتمع المدني والمواطنين بالكشف عن أية جهة تمارس عمليات فساد والدفع بشكاوى ضدها في النيابات المختصة».. يا سلام!! كيف يقول السيد الوزير ذلك وهو يسمع كما نسمع كلنا، من هم في قمة السلطة يطالبون من يتهم أياً من المسؤولين أو النافذين بالدولة بممارسة الفساد أن يبرز «المستندات والأدلة» الدامغة وإلا فليصمت، لأنه في هذه الحالة سيكون هو ضحية الملاحقة القانونية والعقوبة وليس المشكو ضده، وهو تحذير تكرر على مدى سنوات كما يعلم السيد الوزير. القشعريرة جعلت الوزير دوسة أيضاً ينظر إلى القضية الأخرى بعيون حولاء وزائغة، ترى القريب وتنصرف عن البعيد عمداً وتطفيفاً، فتأكيده على «عزم الحكومة تفعيل إقرارات الذمة، بما يشمل زوجات المسؤولين والأبناء» يجافي واقع الحال، حال حكومتنا التي ظل معظم رموزها يتقلبون في نعيم السلطة ومنافعها لما يقرب ربع قرن من الزمان، ثم «تعزم الآن» أن تتقدم ببراءات الذمم بما يشمل الزوجات «المتعددات» والأبناء البررة، وبما لا يحرمهم من «امتلاك الأسهم في الشركات أو الأصول الثابتة كالعقار، باعتباره حقاً طبيعياً يكفله الدستور» على قول الوزير دوسة، فماذا تستفيد البلاد وماذا يستفيد المواطن من مثل هذا «الإقرار المتأخر» الذي مضت عليه العقود، سوى أنه «صك براءة» مكافأة لمسؤولين حكوميين نؤوا بأنفسهم واقتنعوا ابتداءً عند أول الطريق «من كشف حالهم» وفقرهم المعلوم، وأصبحوا الآن هم ومن حولهم من الزوجات والأبناء من الأثرياء ذوي «الأسهم في الشركات والأصول العقارية»، ولا يعلم لا الوزير ولا المواطن حلالها من حرامها.. نعم إنها «القشعريرة»! التي منعت الوزير من أن يقرر محاسبة كل من تولى منصباً حكومياً ولم يقدم إقرار ذمة ومراجعة ثروته والتحقق من مصادرها وفق مبدأ من أين لك هذا؟ القضية الثالثة والمهمة، التي أثارها حديث وزير العدل ل«برنامج مؤتمر إذاعي» هي الحصانات، والتي فجَّر خلالها مفاجأة كبرى وداوية هي أن «25%»- نعم خمسة وعشرين في المائة- من العاملين في الدولة يتمتعون بالحصانة، فهل سمع أحدكم-أيها القراء الكرام- من قبل بدولة يتمتع ربع موظفيها بالحصانة في مواجهة الملاحقة القانونية والقضائية؟! الوزير اعتبر ذلك «تمييزاً غير مقبول» حتى بالنسبة للإسلام، وقال إن وزارته تخطط لتنظيم ورشة للخروج (بتوصيات) تكبح منح الحصانات لقطاع واسع من العاملين، وزاد: الحصانة تمنح لرئيس الجمهورية والدستوريين حتى لا يتعرضوا للمكايدات السياسية، وهو محق في ذلك، إذا اقتصر الأمر «على المكايدات السياسية» ولكن العرف السائد في العالم المعاصر من حولنا هو أن الحصانة لا تشمل الاعتداء على النفس أو المال العام أو الخاص لأي حاكم أو مسؤول، أما في ماضي الإسلام فيكفينا حديث أبوبكر لحظة توليه الخلافة للنبي الأعظم وخاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم «وليت عليكم ولست بخيركم» وطلبه من جمهور الصحابة والمسلمين إن أصلح وعدل أن يساعدوه، وإن اخطأ أن يقوموه، مقرراً بذلك دور «الرأي العام» والشعب في تقويم الحاكم ولم يستثنِ في ذلك وسيلة. السؤال هنا، هل يستطيع وزير العدل رفع كل تلك الحصانات، وهل يكفي انعقاد ورشة تنظمها وزارته لتخرج ب«توصيات» وليس «قرارات» يرفعها إلى الجهاز التشريعي، بتكوينه وولاءاته المعروفة أو إلى الجهاز التنفيذي الذي فصَّل تلك الحصانات وألبسها ل«25%» من العاملين في حكومته لأسباب قدرها ورأى أنها تخدم مقاصده. أتمنى للوزير دوسة التوفيق في مسعاه لرفع تلك الحصانات ومساواة أولئك «المحصنين» ببقية خلق الله، لكن من حقنا أن نشك في أن مثل تلك التوصيات التي تعرض «الأحبة» للمساءلة أو الملاحقة ستجد طريقها إلى النور!