بعيدا عن المساجلات والملاسنات التى تجرى فى الصحف اليومية بين بعض الصحفيين المناصرين لمنبر السلام العادل وصحفيين أخرين بعيداً عن خانة الإلتزام المهنى والتركيز على التحليل الموضوعى لما يطرح فى الساحة السياسية من اراء بطريقة موضوعية متوازنة بدلاً عن الإنطلاق من مواقف تفوح منها رائحة المناصرة لإحد الأطراف ، اعتقد أن هناك العديد من الأسئلة التى يجب أن تتوفر لها إجابات مقنعة قبل أن يتم تحليل أو إتخاذ قرار حول ما ذكر عن ترتيبات جارية لتفعيل الحريات الأربعة بين السودان ودولة جنوب السودان. الذين ايدوا الإتفاق والذين باركوه من الكتاب والسياسيين لم يقدموا لنا اسانيد أو حجج مقنعة تبرر موقفهم ، وفى إعتقادى من خلال المتابعة للصحافة السودانية يلاحظ أنه يوجد بها ثلاثة أنواع من الكتاب تتفاوت اتجاهاتهم بين من يعارض كليا كل قرارت الحكومة وهو يقف فى خانة أقرب للمعارضين لها من السياسيين، أو من يؤيدها بصورة مطلقة تخالف تقاليد الكتابة الصحفية التى يجب إذا تطلب الأمر أن يقدم النصح والرأى الناقد، وفريق ثالث تتلون مواقفه حسب اتجاه الريح، لكل ذلك تغيب عن الرأى العام فى كثير من الأحيان التفسيرات والتحليلات المتعمقة التى تساعد على بلورة رأى عام مستنير ومعبر عن رغبة الناس، لان كتاب الأعمدة والصحف تحكمهم مواقف مسبقة تسيطر على الأراء التى يطرحونها، ليس من مهام الصحافىة التى تسمى مستقلة أن تؤيد أو تعارض، ولكن دورها أن تقدم المعلومات والأجندة وأن تشرح للناس ما يجرى حولهم. لا شك أن الإشارة إلى موضوع الحريات الأربع بعد عودة الوفد المفاوض من جولة اديس ابابا لم يكن أمراً موفقا وقوبل الإعلان سواء كان هناك ترتيب يجرى لمثل هذا الإتفاق أم لا بموجة من عدم القبول فى بعض المنابر خاصة المنابر الدينية وهو أمر لابد أن ينظر إليه كتعبير موجود بين قطاع من المجتمع ، فالتوقعات والأوليات المطروحة كلها كانت تشير إلى إحتمال حدوث اختراق فى المواضيع الأكثر الحاحاً بالنسبة للطرفين ، مثل الملفات الأمنية وموضوع النفط لأنها ذات صلة باوضاع داخلية أمنية و اقتصادية متعثرة فى الدولتين ، ولكن اذا بالوفد المفاوض يفاجىء الساحة السياسة بترتيبات لاتفاق يطرح قضية الحريات الأربعة بصورة ادت إلى إلتهاب الرأى العام بدرجات متفاوتة وتسببت فى طرح العديد من التساؤلات التى لم يكن لها إجابة و يمكن تلخيصها على النحو التالى: 1- فى تاريخ العلاقات الدولية لم يسبق لدولة انقسمت إلى دولتين أن منحت الدولة الأم مثل هذه الحريات فى التنقل والإقامة والتملك والنشاط الإقتصادى لمواطنى الدولتين بهذه العجالة ، فإلى اى تجربة سابقة استند اعضاء الوفد السودان المفاوض على قبول هذا المبدأ الذى ما زال تطبيقه متعثراً مع الجاره الشقيقة مصر رغم خصوصية العلاقة؟ 2- انهارت فكرة الإتحاد بين مصر والسودان قبل اكثر من نصف قرن وما زالت محاولات بناء علاقة مستقرة وثابتة بين البلدين تتخبط من تكامل إلى إخاء إل حريات اربعة وكلها تجارب متعثرة. 3- هل تم الإتفاق بإرادة سودانية كاملة ، أم ادت إلية تدخلات ومؤثرات خارجية من قبل الوسطاء وأصدقاء الإيقاد وقانون سلام السودان الجديد المطروح على الكونجرس من قبل اللوبى الأمريكى؟ 4- لماذا اذن انفصل الجنوب إذا ما كان هناك اصلاً إمكانية للتعايش والتنقل والتداخل بين سكان طرفى القطر؟ 5- ألم يكن المواطن الجنوبى يتمتع أصلاً بهذه الحقوق والحريات فى الشمال تحت ظل الدولة الواحدة قبل الإنفصال فهل نجحت فى بناء الثقة؟ 6- هل تتوفر ارضية امنة لا تحيط بها الكراهية وعدم القبول لإمكانية تنقل الشماليين وإقامتهم وتملكهم فى الجنوب؟ألا توجد مخاطر عديدة تمنع السودانيين من التواجد الأمن بالجنوب استنادأ إلى تجارب عديدة منذ أحداث توريت 1955؟ 7- أليس من المنطق أن يترك حاجز زمنى مناسب إلى أن تستقر الأوضاع فى الدولتين وتزول حواجز العنف وعدم الثقة التى إمتدت لأكثر من نصف قرن قبل التوصل لمثل هذه الترتيبات؟ 8- أليس من الأفضل أن تتطبق مثل هذه الحريات على نسبة محدودة من رجال الأعمال فى الدولتين فى هذه المرحلة وأن لا تعمم لقد سبق لباكستان وبنغلادش أن إنفصلتا عن الهند ، واريتريا عن أثيوبيا على خلفية نزاعات وصدامات ملتهبة إمتدت لسنوات طويلة كما هو الحال بين السودان والسودان الجنوبى ، وبالرغم من مرور سنوات طويلة ،إلا أن هذه الدول ما زالت العلاقات بينها تتصف بالعداء والكراهية والواجهات والتصعيد الساخن فى كثير من الأحيان ، فلماذا الإستعجال فى السودان لمثل هذه الترتيبات التى فشلنا فى تنفيذها بيننا وبين مصر التى تربطنا بها اللغة والدين والثقافة والتقاليد والعادات التى تكاد تتطابق فى كثير من الأحيان. الوصول إلى صيغة إتفاق يحفظ الإستقرار و الثقة ويحقق تبادل المصالح بين السودان وجنوب السودان أمر جيد ومرغوب فيه ، ولكن الظروف والأوضاع الحالية والقضايا العالقة بين الدولتين لا تسمح بتحقيق مثل هذه الأمنيات ، الأمر يحتاج إلى مزيد من التأنى والبحث . لقد سبق لشمال السودان أن بعث قبل الإستقلال بمئات الموظفين والمعلمين والتجار إلى جنوب السودان فى مسعى لبناء الثقة وإزالة الكراهية ، وكانت النتيجة الأحداث المؤلمة فى توريت فى اغسطس 1955 ، اعتقد أن القفز فوق كل الحواجز والمشكلات القائمة الأن بين الدولتين عن طريق الحريات الأربعة يعتبر قفزة فى الظلام ، ومخاطرة غير محسوبة ليست فى صالح الدولتين. فى القارة الأوربية أمكن تحقيق الحريات الأربعة بعد عشرات السنوات بعد إنتهاء الحروب وصمت المدافع ، اما عندنا فما زال صوت المدافع والقتال يندلع من حين إلى أخر ، ولا أدرى كيف يتحرك الناس ويتنقلون بطريقة أمنة فى ظل هذه الأوضاع المتفلتة ، لقد خلق الإنفصال واقعاً جديداً على الأرض ، و لابد من التعامل مع هذا الواقع وفقاً للعبة المصالح بين الدول حتى لا تتحول الإتفاقيات مجرد حبر على ورق لا معنى له . تتحدث العديد من الأسر فى الخرطوم عن بعض اصدقائهم من الجنوبيين الذين عادوا مرة أخرى إلى السودان بسبب سوء الأوضاع الأمنية والمعيشية هناك ، وإذا ما كان ذلك هو واقع الحال ، فمن هو محمد احمد الذى سوف يذهب للإقامة أو التملك فى الجنوب؟