أصحاب الرؤية السياسية الثاقبة، عرفوا منذ بداية التوقيع على بروتوكولات السلام بين الحكومة والحركة الشعبية الخارجة عن سلطان الدولة في السودان- آنذاك- أن الطريق إلى تحقيق السلام فيه مغامرة كبيرة إن لم تكن تضحية بالوحدة بين شقي الوطن.. وبعد أن تحقق السلام وتم التوقيع على الاتفاقية في يناير 2005م، تأكد للمراقبين أن طريق السلام لابد من أن يمر على محطة الانفصال، الذي حدث عملياً خلال الفترة الانتقالية وقبل إجراء استفتاء تقرير المصير. أصبح العنصر واللغة والعقيدة- أي مكونات الشخصية للمواطن- هي خط التقسيم الأول للوطن، لذلك أنقسم الوطن وانفصل الجنوب رغم إرادة الوحدويين حتى يتم عزله عن المحيط العربي ويصبح عازلاً ما بين أفريقيا شمال الصحراء، وأفريقيا جنوب الصحراء، أو ليصبح بمعنى أدق فاصلاً بين مكونين ثقافيين مختلفين يقوم أحدهما على العروبة والإسلام، والثاني على الأفريقانية بمعتقداتها المختلفة. الأمر ليس هو أمر السودان وحده، والتقسيم لا يقف عند هذا الحد، فالمنطقة العربية- كلها- موعودة بالتقسيم، إما بسبب العنصر والعرق، وإما بسبب الدين والمعتقد أو الطائفة، والعلاقة بين الكيانات (المتفرقة) لن تكون علاقة إخاء، بل ستكون نموذجاً للعداء الذي لن تطفئه مياه الحكمة التي يصبها العقلاء على نيران الفتنة. استبشر المتفائلون خيراً- ونحن منهم- بثورات الربيع العربي، وبأنها سوف تمسك بعصب الوحدة داخل تلك الأقطار التي شهدت ثورات الشباب، سعياً وراء وحدة أشمل تستوعب أحلام الشعوب وتطلعاتها في وطن عربي واحد ممتد من المحيط إلى الخليج. لكن سرعان ما تبخرت الأحلام، وسارت الدول الخارجة من القبضة الحديدية على ذات الطريق الذي سار فيه السودان من قبل، وهو طريق يؤدي إلى نهايتين لا ثالثة لهما (التقسيم) أو (التفتيت). في مصر يحاولون زرع بذور الفتنة الطائفية أو إعلاء النعرة العنصرية بين أبناء النوبة وبين بقية أبناء الإقليم المصري المتحد تاريخياً، بينما في ليبيا أخذت أقوال تتبعها أفعال تدعو وتقود إلى الفيدرالية في إقليم برقة الغني بالنفط والثروات. والفيدرالية دعوة حق أريد بها تقسيم وانفصال. واليمن يعاني من تنامي دعوات الانفصاليين، ليعود الأمر كما كان عليه قبل الوحدة بين اليمنين الشمالي والجنوبي، والانفصاليون هناك يتدثرون بدثار سياسي هو الحراك الجنوبي، ولا يريدون التوقف إلا بتحقيق هدفهم الأعلى.. والأغلى. وبذور الفتنة ينثرها دعاة التخريب في أرض الخليج لتنفجر الخلافات بين السنة والشيعة في مملكة البحرين وغباء بعض الأنظمة يؤدي إلى تفاقم الأزمة بتبني وجهات نظر وأفكار الشيعة في مواجهة السنة. والعراق الذي ينتظر قمة عربية جامعة مانعة شاملة في التاسع والعشرين من هذا الشهر، تتجاذبه مصالح القوى الإقليمية والعالمية ويتهدده التقسيم إما على أساس عرقي أو طائفي. نحن لا نعاني وحدنا، والذي يحدث للجميع هو امتحان لإرادة البقاء فينا واختبار للعقل والحكمة.