والله إن المرء ليحزن في بلادنا من السلوك العام والنظرة الكلية لبعض الأحداث العظيمة التي شهدتها بلادنا والتي لا نعظمها حتى في دنيا الذكريات، ومن هذه الأحداث العظيمة انتفاضة رجب أبريل التي قوضت نظام الحكم المايوي في السادس من أبريل عام 1985، والتي أكاد- على المستوى الشخصي- أتذكر ملامحها وتفاصيلها ووقائعها، فقد كنا جزءاً من ذلك الذي حدث وامتدت آثاره في شكل وخارطة حياتنا السياسية حتى يومنا هذا. الانتفاضة كتاب كبير، يحاول كل حزب أن يقرأه باللغة التي تعلي من قدره، ويقرأه المايويون بحزن عميق، إذ يرون أن المفردات السوداء جللت كتاب التاريخ بخروجهم عن السلطة رغم إيمان الأغلبية منهم بأن الحكم لله، وأنه سبحانه وتعالى يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء.. ومع ذلك ظللت على مدى سنين عديدة أتلقى مع السادس من أبريل في كل عام رسالة من الأخ والصديق الأستاذ إلياس الأمين عبد المحمود أحد الرموز المايوية المعروفة، وفيها ينعى نظامه البائد ويأسى على ما تلاه من أيام وسنين جرّت إلى حكم البلاد أنظمة عديدة بدأت بالفترة الانتقالية ثم انتقلت إلى المرحلة الحزبية، فالنظام الشمولي الذي استولى على السلطة إثر انقلاب عسكري في الثلاثين من يونيو عام 1989م والذي اعتبره بعض المايويين تكملة لمشوار بدأوه من قبل، ودعا بعضهم إلى دمج تحالفهم المايوي مع المؤتمر الوطني، إلا أن هذا نفسه لم يجد قبولاً لدى عدد من القيادات المايوية بعد الانفتاح السياسي الكبير الذي شهدته الساحة السودانية والتعددية الحزبية التي يناقض وجودها أصلاً نظام تحالف قوى الشعب العاملة. رسالة الأستاذ إلياس الأمين هذا العام جاءت قصيرة ومقتضبة كما يلي: (6 أبريل 1985 عام الرمادة.. يوم الوجع المقيم.. يوم الحزن الأكبر.. إلياس الأمين)، ولا نحسب أن المنتفضين والثوار يرون في ذلك التاريخ ما يراه صديقنا الأستاذ إلياس الأمين الذي آلمه وقتها أن نقف في وجه النظام ونعانده ونحاربه بالتظاهر والتجمعات، فلم يجد ما ينعتني به سوى أن عيبي الوحيد هو أنني شيوعي، رغم أنه يعلم أن الشيوعية في اتجاه يعاكس اتجاهاتي الفكرية والعقائدية، إلا أن المايويين عموماً يرون أن أكبر ضرر يلحقونه بخصومهم وصفهم بالشيوعية بعد أن ترسخ العداء للشيوعية بعد فشل انقلاب المرحوم هاشم العطا ورفاقه على النظام في 19 يوليو عام 1971م. ذكرتُ مرة لأخي وصديقي إلياس الأمين أن الانتفاضة هي ثورة شعبية حقيقية، محركها كان هو محاولة معالجة إصلاح الضرر العام والشخصي، وقصصت عليه وقد كنا شباباً في ذلك التاريخ، أنني شاهدت في مظاهرة ليلية بشارع النص في الثورة، مظاهرة تتحرك في الظلام الدامس ويهتف من يمشون بها في الطرقات: (لن ترتاح يا سفاح)، وذلك بعد مقتل الطفلة مشاعر محمد عبد الله، أول شهيدة- حسب معلوماتي- في تلك الانتفاضة، شاهدت في تلك المظاهرة- كما قلت لصديقي إلياس- رجلاً مخموراً يحتضن زجاجة خمر فارغة عليها ورقة تدل على نوع الخمر الذي كانت تحمله، رأيت الرجل يهتف بلسان ثقيل بعد أن يصطنت للهتاف السائد (لن ترتاح يا سفاح)، فيقول هتافه الشخصي والخاص (عائد عائد يا أبومفتاح). أما (أبو مفتاح) ذاك المعني في هتاف الرجل، فقد كان نوعاً من أنواع (الشري) أو النبيذ المصنع محلياً في السودان، وقد أوقف الرئيس الراحل نميري- رحمه الله- إنتاج الخمور ومصانعها بعد أن أعلن تطبيق الشريعة الإسلامية في سبتمبر عام 1983م، وبعد أن دعمه الشارع السوداني بأكبر مسيرة شعبية مليونية تؤيد تلك الخطوة.. لكن كلاً منا يقرأ الأحداث بعين لا يقرأ بها الآخرون.