في الحافلة المتجهة إلى الخرطوم استمعت إلى ثلاث كذبات متتاليات.. الأولى كانت من الموظفة الشابة التي كانت تجلس بجانبي.. رن هاتفها الجوال فتحدثت مع أحدهم ربما من (ناس الشغل).. وكانت تقسم بأنها الآن تركب تاكسياً إلى العمل بعد انتظار طويل للعربة.. عندما نظرت إليها لأرى لماذا تكذب بهذه السهولة.. عضت على شفتها السفلى وأومأت بعينيها كناية عن أنها تفعل أمراً عادياً.. وعليّ أن أتقبل الأمر بصفته خدعة أو ضرورة.. وهي أرادت تحييدي على كل حال.. ولو أنها تحدثت بصوت خافت دون أن أسمعه لكفت نفسها تطفلي المشروع ولواربت الباب على كذبتها. الكذبة الثانية كانت من رجل جلف يتحدث بصوت عالٍ طغى على صوت المذياع الذي كان يذيع مديحاً معاصراً عبر إذاعة متخصصة في ذلك الضرب.. عليّ الطلاق أنا هسا واقف جنب دكانو!! الكذبة الثالثة من الكمساري وكان يتسامر مع زميل له كان يقف بجانبه لا يجلس حتى يوفر له ثمن التذكرة.. وكانت امرأة قد أوصته أن ينزلها في محطة ( كذا).. ولما جاءت المحطة نبهه زميله إلى أن هذه محطة الحاجة.. فقال له: أنسَ.. ولما احتجت المرأة قال لها بكل بساطة: نسيت وأوقف الحافلة بعد مسافة من محطتها ولا أدري لماذا فعل ذلك.. وما مصلحته فيه.. إنه موقف محير جداً.. أعرف أن الكذب أصبح ثقافة عالمية.. حيث جاء في دراسة أننا نبث يومياً ما لا يقل عن 200 كذبة.. أي مرة كل خمس دقائق.. هذه الأكاذيب بعضها يدخل في باب المجاملة.. كأن تقول لمن صعقت بلقائه إنك سعيد بهذا اللقاء.. وأن تقول لمن سألك عن رأيك في أمر ما جميل جداً وهو في الواقع قبيح جداً.. أحد علماء المعمار (مأمون أفندي) يربط الكذب عالمياً بالمعمار المستخدم.. وقد لاحظ أن المعمار الأوربي والأمريكي والياباني له صفة الصراحة والأماكن المفتوحة.. بينما المعمار العربي والشرقي عموماً يبنى على فلسفة السرية والإخفاء بدهاليزه وباب الرجال وباب النسوان.. وديوان الرجال المحرم على النساء والأطفال.. ولو أن في معمارنا اختفى الديوان نهائياً وتحول إلى بقالة أو حانوت أو استثمر تجارياً على أي نحو خاصة في البيوت المطلة على شوارع رئيسية.. وهناك الكذب المظهري في مناسباتنا وذلك المسمى (البوبار).. ويتمثل في أن تظهر غنياً بينما أنت فقير.. فتستدين حتى تقيم الولائم الضخمة.. وتبيع المدخرات الحميمة حتى تظهر بمظهر الثراء والفخامة في مناسباتك التي تقيمها.. أما الكذب الرسمي في السياسة وفي الفنون.. ومرة ادعت فنانة سودانية مقيمة بالقاهرة أنها خريجة جامعة الجزيرة.. وهي لم تنل حتى تعليم ثانوي.. وشاءت الصدف أن التقي بها هناك وسألتها عن هذه الكذبة.. فأقسمت لي أن مقدم البرنامج سألها عن أقرب جامعة إلى المنطقة التي جاءت منها في السودان (مدني).. فقالت: جامعة الجزيرة.. فبث المعلومة الكاذبة بتقديره هو.. فلم تستطع إلا أن تجاريه.. وتبريره لذلك أنه يريد أن يرفع من قيمتها ويعليها!!.. هي لم تكذب ولكنها سكتت علي الكذبة فأصبحت مادة يتندرون بها عليها.