{ نحتاج أحياناً الى الأكاذيب لننجو من حرائق الحقائق! فكم مرة عشنا في فقاعة ملونة لكذبة كي نحتمي بها من هجير حقيقة لا نود رؤيتها ومشاهدتها عارية؟ كم مرة بللنا أقدامنا بماء ورد الكذب كي لا تطعنها أشواك الحقائق؟ كم مرة (سفّينا) سكر كذبة بعد أن جرت في حلوقنا حين غرة مر علقم حقيقة؟! والحقيقة التي نحاول أن نهرب من وجهها الجميل الى كذبة أجمل هي أن رمضان أضحى مجرد ساعات للجوع والعطش الإحيائي فقط وما دونه فهو ترويح عن النفس كل ساعة وهذه هي الكذبة التي بها تمّ الهروب من حقيقة ما هو رمضان؟ فهرباً من برامج لا تأتي ببلح الشام وعنب اليمن كاملاً لمحفظة إدارة القناة والإذاعة تقرر الآلة الإعلامية بأكملها في السودان أن يكون السوق مفتوحاً على الغناء فقط وما بقى للإضحاك والفارغة من براميل الجُمل الفضفاضة والأزياء. فينفض سامر رمضان الكريم وتدخل خارطة برامجية أيام العيد السعيد وكل عام وأنتم بخير سهرات وحفلات ونفس المزركش من الثياب والضحكات ونفس الديكور وزوايا الكاميرات داخل الأستديوهات الضيقة! { فهل تضيق بنا حقيقة أن رمضان شهر مكتمل الجمال لا يحتاج الى صحون التحلية التي تلي صواني الأفطار هذه حتى لكأنما قد أصابتنا بارتفاع نسبة السكر في البصر و(طشش) فترانا نشاهد ذات الطعم ونسمع نفس الوجوه ونتذوق ذات الأفكار فقط على أثير وتردد مختلف. بعضنا والحمد لله منهم تحولنا برمضان الكريم الى قنوات تحترم الشهر وتحصلنا على أفضل ما في العولمة من حسنات تتيح لنا متابعة رجال ونساء أعدوا للشهر زادهم البرامجي من فقرات ممتعة ومفيدة في ذات الأستديو وناضجة وجميلة من نفس التركيبة البرامجية والإخراجية وفوق كل ذاك لا تحتوي على كريمة الكذب اللذيذة بل تقدم لنا الحقيقة كاملة جداً. فنتذوقها ونستمتع بوجبة إفطار رمضانية سليمة ومغذية جداً. { غذاء الروح والجسد قصص الأنبياء دون إغلاق متزمت لقصة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، مآثر الصحابة رضوان الله عليهم حكايات وكرامات أولياء الله الصالحين، صور المجتمع القديم السيئة حتى أوان الرسالة المحمدية وكيفية علاجها القديمة وكيف أن كل ذلك يلزمنا الآن. فتاوى ومسافرون وخواطر والإسلام والحياة والإسلام والناس واختاروا الإسلام وأحاديث ...إلخ من برامج تبدو في أصلها دينية التوجه لكنها تناقش صميم قضايا المجتمع الآن تدعو الى سبيل الله بالموعظة الحسنة والترغيب الجميل الممتع والذي وأنت مسلم في الأصل تود لو تبدأه من جديد. { وفي السودان لكن بأزمان متفرقة تعيد خمس قنوات برامج الداعية الراحل (محمد سيد حاج) القديمة مع أنه كان من ضمن خارطة برامج النيل الأزرق في حياته ومع أن أسطوانات محاضراته ملأت الأسواق والمكتبات والجوامع ليس لأن السودان جفّ نبع الدعاة والفقهاء فيه لكن لأنه الوحيد الذي استطاع أن يبسّط للناس الدين ويجعله معاملة كما أمر به الرسول الكريم، بسّط خطابه وجوابه وأعاد الدين الى عهده الذي يُعرف به كأنما هو الماء الذي نشربه سلساً وبارداً وطافئاً لحرائق النفوس العطشى من الذنوب والأكاذيب. وطرح وجهه متبسماً متأدباً كأنه يود أن يسألك ويخاف أن ترد سؤاله وتواضع لله وللناس حتى ارتفع عن دنيا الناس.. رحمه الله وأنزله الجنة. والنار التي تشتعل على خطوط الهواتف في البرامج الدينية لا تطفئها حتى الإجابات الكافية من مقتضبي الوجوه والجباه لكأنما يسألهم الناس مالاً وتفضح بما لا شك فيه الجهل المدقع الذي يحيط بعقولنا المسلمة ومن كل جانب. وتفضح الأكذوبة الكبيرة التي نعيشها بأننا نغير على إسلامنا فقط عبر رسائل الهواتف الخلوية والبريد الإلكتروني والحقيقة أننا نرسلها ثم نجلس لنروّح عن أنفسنا ساعات بعد الإفطار وفي كل المحطات السودانية. { ونفوسنا السودانية ذات تركيبة عجيبة تختلط فيها كل الأمزجة والخيارات الروحية المفضية الى البحث عن راحة البال فننجذب ونرقص بلا ساقين مع طار الدراويش نشجن بحزن راقٍ حينما يطل من الراديو صوت عنفوان النيل (عثمان حسين) نتمايل طرباً وعجباً مع (الجابري) يدخلنا حضرة الباشكاتب دواوين اللحن الأصيل والكلام الجميل نسمع بمزاج (رشا شيخ الدين) وفي دنيا (سميرة) نروح تمام التوهان ثم نبكي كطفل راح من كف والده لما يدخل مفتاح صوته الجهور/الحنون كل مرة بمرة ويفتح أبواب قلوبنا ونفوسنا الصدئة الشيخ (محمد سيد حاج) نضحك كطفل وجد والديه لما يمنحنا الشيخ الشاب (محمد هاشم) أملاً في بكرة وتحسين حالنا. { هذا هو حالنا السوداني بل وأعجب لما تدخل كرة القدم وفرقها حوش النفوس ولما تفوح روائح البخور والبن و... ومزاج رمضان أكذوبة كذلك! والحقيقة أنه طاعة وعبادة ونظافة روح وجسد في أصل عمله وطقس في أصل بلاد المسلمين وترويح نفسي بتفخيم تشديد الرا ء لا ترويح بتخفيفها وما حدث أن القنوات روحته منا بخفيف الراء والكذبة التي صدقوها قبلنا أن أفضل الفترات للإعلانات ومدخلات المال للقناة هي بعد العشا وقت الونسة والفرفشة فأصبح هو الزمن الحي إعلامياً ولا يصح فيه سوى الغناء والطرب والرقص. وترك أمر الزمن الميت للدعوة والتبليغ والسؤال عن مبطلات الصوم؟! { صوماً مقبولاً إن شاء الله وإفطاراً هنيئاً وونسة لذيذة بغنا طاعم يرّوح حريق الجوف من حقيقة رمضان الماضي فبالتأكيد هناك جزء جديد من أكذوبة قادمة تخفي الحقيقة ولآخر مرة!