لم تكن هذه هي المرة الأولي التي أطوف فيها عدداً من معسكرات النازحين بولايات دارفور، فقد تعددت زياراتي منذ انفجار الحرب الكارثة مطلع عام 2003م، ابتداء من مواجهة الموجات الأولي للنازحين المتدفقة نحو مدن دارفور الكبرى، من ضحايا الحرب المدنيين خاصة النساء والأطفال وكبار السن، حتى إنشاء المعسكرات بعد عام من بداية الحرب. ما بين الزيارات والمهام الإنسانية الأولى، والزيارة الأخيرة في منتصف شهر ابريل الجاري، تبدلت الأحوال في معسكرات النازحين وتغيرت من الخيام والمشمعات إلى أكواخ من المواد المحلية، ورغم هذه التغييرات فإن المأساة ظلت أشد وقعاً على النفس، حين تسبر نمو المواقف وتتأمل عمق الأشياء، ووقائع نتائج الوعي والمعرفة، وأعني وعي ومعرفة النازحين بقضيتهم والتعبير عنها بالحديث والسلوك، فإدراك الظلم أشد وقعاً وألماً من الظلم نفسه. في مقالاتي هذه اتخذت الرواية منهجاً من خلال بعض المواقف الإنسانية المؤثرة، رغبة منا في إلقاء حجر ضخم في البركة الساكنة، رغم الحراك السياسي ممثلاً في الاتفاقيات ونتائج المؤتمرات التي ترمي إلى تحقيق السلام في دارفور، ونحن نعاصر اتفاقية الدولة للسلام في دارفور، والتي أفردت للنازحين محوراً أساسياً في تلك الوثيقة والتي بموجبها نشأت السلطة الإقليمية الانتقالية، لتنفيذ بنود الوثيقة في محور النازحين والعودة الطوعية، والتي بدورها ارتبطت بجدول زمني تم الحاقة بالوثيقة. الموقف الأول الذي سأرويه لكم حدث في معسكر دريج بنيالا، وبعد اجتماع طويل لوفد المفوضية القومية لحقوق الإنسان مع النازحين، تحرك الوفد من ساحة المعسكر نحو خيام النازحين، والتي أشرت إلى أنها تبدلت من خيام إلى أكواخ من الحطب والقصب... أمام أحد الأكواخ التي لا تتعدى مساحته أكثر من 30 متراً مربعاً هي مساحة الحوش الخارجي، ويقبع في أحد أركانه راكوبة مغلقة من القش، وقف الزوار وقد سبقهم أهل الإعلام بكاميراتهم، فخرج من الراكوبة طفل صغير لم يتجاوز عمره السادسة، يستطلع ما يجري أمام مسكنه المتواضع، وحين رأي الرهط والكاميرات توقف قليلاً ثم عاد مسرعاً نحو باب الصفيح من الراكوبة، واغلق الباب بقلق وعاد لمواجهة الزوار، وقد عقد ذراعيه خلف ظهره ليحول بين الزوار وبين النظر أو الدخول إلى الراكوبة... فجر الموقف حمى الأمومة ورجاحة المعرفة بين جوانح الأستاذة/ مريم تكست إنهمر الدمع من عينها وهي تأخذ الطفل بين ذراعها، وتدعو الله أن يكون له بيت وحمى وستر يحمي عرضه ويفتح ديوانه برغبة. أما الموقف الثاني فقد وقفت أمام وفد المفوضية القومية لحقوق الإنسان امرأة في العقد الرابع من عمرها، سمراء تميل إلي السواد، وقفت تتحدث بوعي يتجاوز الموقف والمكان، عن الانتهاكات وضياع الحقوق في معسكر النازحين، تحدثت عن معاناة المرأة التي أصبحت تتحمل أعباء الحياة الأسرية في غياب الرجال، وفي صعوبة خروج الموجودين بالمعسكر الذي ربما يكون خروجهم بلا عودة بسبب استهداف الأطراف المتحارية لهم، وقالت إن المرأة تعمل في مجالات لا تليق بها، مثل أعمال البناء، ونقل الطوب والاحتطاب في الغابة القريبة، وتتعرض للاعتداء والعنف من أدعياء الانتساب بالأجهزة التنفيذية والأمنية، والتحرش بهن من صعاليك المدن والعاطلين السفهاء، وبجبروت الجهلاء، الذين يحملون أسلحتهم لا يراعون بها حرمة لدم أو كرامة لإنسان، وطالبت تلك المرأة وبإلحاح ضرورة أن تعمل كل الأطراف باهتمام وجد لإعادتهم إلى أرضهم ومناطقهم، ورغبة النازحين الشديدة في العودة للديار في ظروف أمنية مواتية أنهم سوف يعودون بغير أبنائهم، وطالبت بمنحهم قطع سكنية بالمدنية، حتى يتمتع أبناؤهم كغيرهم من أبناء المدن بفرص التعليم، والخدمات، والكهرباء والانترنت- هكذا قالت- وإنهم سوف يعودون للزراعة والرعي ولن يعتلي بعد اليوم أحد ظهور أبنائهم بسبب جهلهم وتخلفهم، ولن يقرر أبناء الذوات والمدن في مصير أبنائهم من الأجيال القادمة. عرجت تلك المرأة- وهي تحدثنا في حماس وقوة- إلى معاناة النساء في حقهن الطبيعي بالمعسكرات، لعدم وجود الرعاية الصحية للنساء داخل المعسكرات، خاصة الحوامل اللاتي مازلن يستخدمن طريقة الولادة بالحبل داخل المعسكرات، وفي حالات التعسر فإن نقل الأم الحامل إلى مستشفيات المدينة يتم عن طريق الدواب، وفي ساعات الليل والنهار، ومعظمهن يتوفاهن الله قبل الوصول إلى المستشفي، وقالت تلك المرأة الحكمة إنه رغم هذه المعاناة والمخاطر، فقد عاهدت الله أنها لن تتوقف عن الإنجاب ما بقي في جسدها وعروقها نبض، وأنها تدعو نساء المعسكرات أن لا يتوقفن عن إنجاب الأبناء أبداً أبداً.. فانتبهوا أيها السادة.. فإن امرأة من النازحين، وبعد ثماني سنوات في معسكرات الذل والضياع، نذرت نفسها بأن تنجب كل عام فؤوساً تشق قلب المستقبل....ونواصل الرواية. ولله الحمد....