في الأسبوع الماضي سطرنا بعضاً من المشاهد والمواقف في معسكرات النازحين بولايات دارفور لإثبات أن التجارب المريرة ونتائج النزوح أسهمت في وعي وإدراك النازحين لقضيتهم. سطرنا عن موقف وسلوك الطفل الذي لم يتجاوز عمره الست سنوات وهو يتصرف بمسؤولية الكبار ويقوم بدور الحامي للأعراض ومواجهة انتهاكات خصوصية الأسرة، وسطرنا في المشهد الثاني عن المرأة النازحة التي أدركت أن التكاثر في مثل هذه الظروف واجب على الأمهات النازحات ربما حتى لا ينقطع النسل وربما من أجل استرداد الحقوق وإعمار الأرض، وأشارت في حديثها أمام وفد المفوضية القومية لحقوق الإنسان إلى حق أبناء المعسكرات في البقاء في المدن الكبرى للاستفادة من الخدمات والتعليم ومواكبة العصر المفقود في قراهم المهجورة. ومواصلة لسرد المواقف ومن مدينة الجنينية عاصمة ولاية غرب دارفور وفي معسكر أبوذر وبعد اللقاء الجماعي لوفد المفوضية بعدد من مندوبي المعسكرات المنتشرة بالولاية وبطلب من النازحين استجاب الوفد للقيام بالمرور على مساكن النازحين بالمعسكر، كان شيخ تجاوز عمره الثمانين يجلس في ظل شجرة وبعض من الأطفال يتجمعون حول المصور الصحفي المرافق للوفد والذي بدوره يلتقط لهم صوراً في أوضاع مختلفة، اقتربت من الشيخ وبصوت عالٍ قلت الله قادر بقيتو سينما وبتشيلوا صوركم. ظن الشيخ أنني القي إليه السلام فتلجلج ثم صمت، وجهت حديثي إليه عن ماذا يفعل تحت هذه الشجرة، وحين طال صمته كان صبي يقف بجانبنا تطوع وأجابني بأنه ينتظر ابنته وحفيده الصغير، وعلمت أن ابنته الوحيدة وطفلها خرجا من المعسكر قبل عامين ولم يعودا وبقي الشيخ وحده في السكن وهو يخرج إلى تلك الشجرة كل صباح يصلي وينتظر حتى المغيب انتظاراً لعودة ابنته وطفلها. قفز إلى ذاكرتي شعار المنظمة النرويجية الدولية لحقوق الإنسان وهو صورة فتاة جالسة على كرسي تنظر إلى البحر والشعار مستوحى من فتاة نزل أخواها إلى البحر ولم يخرجا وتحدت القوانين التي تمنع خروج النساء بعد مغيب الشمس وجلست على حافة البحر تنتظر أخويها أياماً وليالٍ حتى ماتت. أوقفتني امرأة في أطراف معسكر النازحين سألتني من أين جاء الوفد، فقلت لها من الخرطوم، استدركت قائلة بتهكم شديد، الجلابة أهلنا، قلت لها أنا من دارفور، سألتني عن قبيلتي، فرأيت أن أبعث لها رسالة فقلت، والدي فوراوي كنجاري ووالدتي رزيقية قايدية وجدي لأبي بديري دهمشي وحبوبة والدتي شايقية ولنا في الزغاوة والبرتي وزوجتي جعلية ودحبوبة أبنائي العبدلاب و..... قاطعتني وقالت بتهكم: جنس لخبطة، (إلا حبلك مودر). والرواية الرابعة من مدينة زالنجي، فقد وقف أحد عمد نيرتتي يتحدث لوفد مفوضية حقوق الإنسان عن افتقار الأمن والأمان ويقسم أنهم في قريتهم الآن ولأكثر من ثلاثة أشهر يؤدون الصلاة جمعاً صلاة العشاء مع المغرب، لعدم استطاعتهم مغادرة الخنادق داخل بيوتهم بعد مغيب الشمس، لاحظت أن أصابع يد العمدة وهو يتحدث مبتورة عند الكف وبعد الاجتماع اقتربت منه وتجمعني به علاقة صداقة قديمة سألته عن أصابعه المبتورة، جذب الثوب عن ذراعه فرأيت الجروح الغائرة والتشوهات الكبيرة وأخبرني بأن هذا بسبب حادث لشاحنة فرّ سائقها من كمين للمتمردين ثم قال لي إنه حين حضر من الدوحة اختفى لأكثر من خمسة أشهر في مدينة نيالا لا يخرج للناس ولا يتصل بإنسان خوفاً على حياته المهددة بسبب ذهابه إلى مفاوضات الدوحة، فقد علم أن هناك أوامر صادرة من قوات عبد الواحد بتصفيته أو اختطافه عقاباً على مشاركته في مسيرة السلام، إلا أنه عاد متسللاً إلى مدينة زالنجي. في آخر لقاء لي بصديقي العمدة وقبل مغادرتي لمدينة زالنجي، أخذني جانباً وسألني باهتمام شديد عن أين وما مصير وثيقة الدوحة؟ ودعته وانصرف كل منا، فما كان ينتظر إجابة. ظل موضوع وثيقة الدوحة هاجساً مشتركاً بين قيادات النازحين في الولايات الخمس وعبروا عن تأييدهم المطلق للوثيقة التي شاركوا في إنجازها وثقتهم في تطبيق محاورها التي ستقدم العلاج لمشكلات المعسكرات الآنية وموضوع التعويضات وإعادة الإعمار والعدالة والمصالحة، هذا التأييد الكاسح لهذه الوثيقة وللسلطة الإقليمية بدأ في الاضمحلال وفقدان الثقة بين أصحاب المصلحة والمجتمع المدني الدارفوري، فرغم مضي حوالي العام علي توقيع الاتفاقية ورغم الجداول الزمنية التي تم تسجيلها للتنفيذ، لم تتحرك نملة على الأرض كما عبر نازح من الضعين، وإن لم يتدارك شركاء الدوحة والمهتمون بالسلام إنقاذ الوثيقة والسعي لجعلها حقيقة ولو جزئية معاشة بين الناس، فعلى سلام دارفور السلام.