عدت إلى أوراق قديمة فوجدت إحماء لكتابه موضوع لم يكتب حتى هذه اللحظة .. ذلك يتعلق بقضية قديمة تداخل فيها بالنسبة لي الأكاديمي مع الاجتماعي.. إذ أدلى فيها بشهادته أستاذنا «بالفرع» آنذاك الدكتور عزيز حنا الذي كان يدرسنا «علم النفس» ولعله علم النفس الاجتماعي.. فقد كانت موضوعاته الرأي العام.. وقياس الاتجاهات.. وتغيير الاتجاهات.. وهكذا موضوعات.. وكان قد أخذت المحكمة بشهادته في قضية سابقة عن رجل رمى بأبنائه في بئر فلقوا حتفهم.. فشهد بأن الرجل مر بحالة «جنون مؤقت» شرح أعراضها وأسبابها.. وقد أشاد لنا بالقضاء السوداني المتطور إذ قبل هذه الشهادة وبنى عليها الحكم.. وكانت هذه المرة الثانية لاستدعائه لذات الموضوع لكن المحكمة لم تأخذ هذه المرة ببينته.. واستعانت بعلماء نفس غيره أكدوا سلامة الصحة العقلية للمتهم.. كنت «فنياً» أرى في البطل المأزوم في القضيه من الممكن جداً أن يكون قد مر بلحظة جنون مؤقت حين نفذ جريمته والتي وصفت بالبشعة وربما وقوف الرأي العام ضدها.. جعل ذريعة الجنون المؤقت لا تستقيم مع المنطق العام أو المنطق الشعبي. القصة كانت أن طبيباً من أسرة مرموقة ميسورة الحال..اغتاظ من سلوك بعض المتعاملين معه في موضوع دكان.. فصب عليهم جردلاً من البنزين وأحرق عليهم الدكان فاحترق ثلاثة من أربعة تفحموا.. ولحق بهم الرابع بعد أيام.. وبعد أن أدلى بالواقعة للمحققين والأطباء.. فإذا استخدمنا المنطق رجل بكل هذا الوضع كيف يقوم على عملية مثل هذه .. مهما كانت الأسباب..لا يمكن أن يكون رد الفعل لها بهذا الحجم من الشراسة والبشاعة..إذن فلا بد أنها حالة جنون مؤقت وكل شخص يمر بحالة الجنون المؤقت هذه.. حين مثلاً تحاول قطع الشارع رغم وجود عربة مسرعة..أو أن تتصرف تصرفاً لا يوازي كردة فعل لأمر ما.. وفي عملي لفترة مقدرة بأخبار الحوادث والقضايا والمتابعة اليومية للجريمة..كنت أرى الجنون المؤقت فيمن يقتل زميله بسبب «سفة تمباك» مثلا ..أو مقابل مبلغ تافه.. صحيح أن هذه الجرائم تأتِ عبر أم الكبائر..لكن يمكن أن يكون السكر ذاته سبباً في المرور بحالة الجنون المؤقت.. وفي قصص الانتحار.. أليست هي لحظات جنون مؤقت مثل شاعرنا الذي رمى بنفسه من ذرى عمارة بذلك البلد البعيد البارد..أليست هي حالة جنون مؤقت.. وما يصدر من قرارات ومن تصرفات بعض الساسة والتنفيذيين أليست هي حالات جنون مؤقت؟!! وبعض اللاعبين عندنا.. ألا يصابون بجنون مؤقت حين ينفردون بالمرمى ويكون خالياً من حارسه فيصوبون إلى الخارج..المغنون الذين يتغنون بكلام ما أنزل الله به من سلطان.. فهناك أغنية اسمها «ما تشغلا لي» فسألت شنو البشغلوها دي؟ فقالوا لي النقة.. فعرفت أنه تشبيه للنقة أو الكلام الفارغ بأسطوانة مشروخة تتردد.. وفي رواية أخرى عرفت أنها تعني « ما تدق لي جرس » وهي كناية عن الإلحاح أو اللّت والعجن أو الكلام نوع دخل لي بي حمد طلع لي بي خوجلي.. ألا ترون أنني ذاتي أصبت بجنون مؤقت حتى أفهم المقصود من أغنية ينبغي أن تكون واضحة ومباشرة.. مثل أغاني زمان: أحبك يا حبيبي عشان أنت حبيبي..