أساتذنا الجليل محمد الحافظ نصر من الأساتذة الذين اعتز بتتلمذي على يديه فى المرحلة الجامعية وما بعدها.. حافظ كما يحلو لنا أن نسميه تخرج منه من بين الفينة والأخرى دعابات وخطرفات.. غالباً ما تنسينا حكاياته الطريفة هموم هذه المهنة الشاقة قليلة الدخل عظيمة الثواب.. ذات يوم ونحن جلوس عنده.. بدأ يحكي حافظ حكاية أسماها طاقية الرجل.. تقول الحكاية إن رجلاً كان يمشي راجلاً بين قريتين.. يعترض طريقه مجموعة من قطاع الطرق (الهمباتة).. وسعوه تفتيشاً.. يبحثون عن غنيمة خفيفة الوزن غالية الثمن.. لكنهم لم يجدوا ضالتهم عنده.. همس أحدهم في أذن الآخر (الهدوم).. وسرعان ما طلبوا منه أٍن يخلع ملابسه.. فاستجاب بأسرع ما يكون.. وهو يردد (الجاتك في هدومك سامحتك).. خلع كل ما يلبس إلا ما يستر عورته.. ولكنهم يصرون على أن يخلع ما تبقى.. استجاب وهو يهمهم بكلمات (يا روح ما بعدك روح).. ثم أخلوا سبيله وتركوه كما ولدته أمه.. إلا من طاقية صغيرة تقبع في مكان خفي من رأسه.. الرجل يقرر الرجوع إلى قريته.. يتوارى من شجرة إلى شجرة حتى أرخى الليل سدوله.. ثم دخل القرية على استحياء.. وطرق باب منزل صديقه.. الصديق لم يمنعه هول المفاجأة أن يرمي إلى صديقه بعض الملابس ليستر بها جسده العاري.. ثم يسأله عن ما جرى؟ بدأ المسلوب يحكي الحكاية.. ويروي كيف أجبره قطاع الطرق أن يخلع ملابسه دون أن تفلح توسلاته بترك الحد الأدنى من الملابس.. والصديق وهو يستمع إلى الحكاية.. يلمح فجأة الطاقية التى لم يشملها السلب.. ثم يسأل.. والطاقية (ما شالوها ليه).. ينتفض المسلوب وهو يتحسس طاقيته اليتيمة وهو يصيح بأعلى صوته (لو وصلوا الطاقية الدم كان وصل الركب). استرجعت هذه الحكاية وأنا أتابع الارتفاع المتتالي في المستوى العام للسلع والخدمات أو ما يسميه الاقتصاديون ظاهرة التضخم.. منذ أكثر من عام والأسعار في ارتفاع مستمر.. الأسباب متعددة.. خروج بترول الجنوب الذي كان يرفد الخزينة العامة بقدر كبير من العملات الأجنبية.. طفيليون يصطادون في الماء العكر.. بعضهم يضارب بأسعار الدولار.. والبعض يحتكر ويخزن لانتظار المزيد من الارتفاع.. ودرجة حرارة الأسواق ترتفع يوماً بعد يوم.. تتساقط أوراق التوت التي تستر حال المواطن الضعيف محدود الدخل.. وفي المعسكر الآخر طفيليون تمتليء بطونهم إلى حد التخمة.. يرفعون الأسعار يوماً بعد يوم.. ينظر أحدهم إلى الآخر وهو يردد.. هل من مزيد.. في غمرة هذه الأحداث رأس السوط يصل الحكومة التي تراقب عن كثب ما يحدث في محيطها الإقليمي.. حكومة ولاية الخرطوم تنشيء جسماً لمحاربة الغلاء.. التوصية تأتي بأن الحل الناجع هو افتتاح مراكز للبيع المباشر للجمهور.. الخطوة تلقى استحساناً من المواطن الضعيف الذي يفقد من حين لآخر بعض ما يستتر به.. المسؤولون في قمة الهرم يصرخون.. سنضرب بيد من حديد كل من يتلاعب بقوت الشعب.. ولكن بعض الطفيليين وأصحاب النفوس الضعيفة والمنافقين والذين في قلوبهم مرض يخرجون ألسنتهم عندما يسمعون مثل هذه التصريحات.. في إشارة إلى أن الارتفاع سيستمر من أسعار الدولار وحتى أسعار المساويك.. وتستمر أوراق التوت التي تستر جسد المواطن في السقوط.. الارتفاع يشمل سلعاً تنتجها مؤسسات الدولة.. مثل سلعة السكر التي تنتجها مصانع الدولة.. أسعار السكر تستمر في الارتفاع.. والسبب هذه المرة ليست أسعار الدولار ولكنها بعض السياسات غير الحكيمة التى انشأت وسيطاً بين المواطن وشركة السكر.. هذه السياسات غير الموفقة أفرزت ما أسماه البعض مافيا السكر.. تلك المافيا التي كادت تفسد علينا انتصارات قواتنا ومجاهدينا في هجليج وتلودي وغيرها من الأراضي المحررة.. وفي السوق أصناف أخرى من المافيا.. مافيا الأسمنت وأخرى للسيخ والقائمة تطول.. الارتفاع في بعض أسعار السلع المستوردة ربما يكون له ما يبرره..ولكن بعض السلع محلية الصنع والتي لا تدخل في مدخلاتها مكونات مستوردة.. فارتفاع أسعارها بهذه المعدلات ليس له ما يبرره.. هل ستلعب الحكومة دور المتفرج في مباراة غير متكافئة بين المواطن الضعيف وطفيليين انعدمت عندهم الأخلاق يمتصون دم المواطن.. ثم يحاولون (قرش) عظمه.. وهكذا يستمر مسلسل ارتفاع الأسعار.. وهو أشبه بالدراما المكسيكية التي غالباً ما تستمر حلقاتها إلى ما بعد الحلقة المئة.. مراكز توزيع السلع بأسعار منخفضة.. البعض يغلق أبوابه.. وبعضها الآخر خاو على عروشه إلا من جوالات بيضاء متراصة فوق بعضها البعض.. يحسبها المواطن سكراً.. حتى إذا جاءها وجدها صابون بدرة.. وتستمر حكاية ارتفاع الأسعار وأوراق التوت التي يستر المواطن بها جسده تسقط واحدة تلو الأخرى.. لتبقى ورقة واحدة.. وهي أشبه بطاقية الراجل.. ثم تنذر وزارة المالية الاتحادية الراجل.. بأن الطاقية نفسها مرغوب فيها.. العام القادم سيشهد رفع الدعم جزئياً من المحروقات.. البعض يصيح.. إن رفع الدعم عن المحروقات خط أحمر.. كيف لا.. وهو سيحدث المزيد من الارتفاع.. عندها الأغنياء يزدادون غنى.. والفقراء يزدادون فقراً.. المرتبات والأجور للعاملين بالدولة لن تبارح مكانها.. ترى هل ستسقط طاقية الراجل في يد الجماعة؟.. وزير المالية يظل يردد أن الإيرادات الحكومية ضعيفة.. ونحن نسأل.. هل الضعف في إيرادات الدولة؟.. أم الضعف في إدارة هذه الإيرادات؟.. الأخ الوزير تكرم مشكوراً مأجوراً بالرد على هذا السؤال وهو يخاطب الجلسة الختامية لمؤتمر المحاسبة الأول في الأسبوع الماضي.. إن وزارة المالية لديها نقص في الخبرات في مجال المحاسبة (انتهى حديث السيد الوزير).. في اعتقادي أن المسكنات التي تتعاطاها وزارة المالية من حين لآخر لن تجدي نفعاً.. رفع الدعم عن المحروقات لن يحل مشكلة عجز الموازنة.. كيف لا وقد جربه الوزير الحالي في زمن ليس بالبعيد.. الحل يكمن في تخفيض الانفاق الحكومي قولاً وفعلاً.. على الحكومة أن تسرّح بإحسان الجيوش الجرارة من المستشارين ووزراء الدولة والوزراء بلا وزارات وما اصطلح على تسميته بالخبراء الوطنيين الذين أرهقوا موازنة الدولة بالمصروفات كبيرة المقدار ضعيفة العائد.. كيف لا وهناك المئات من هؤلاء بالمركز والولايات.. ثم بعد التسريح بإحسان.. تقليل مخصصات من تبقى منهم.. كيف لا والوزارة تكليف وليست تشريفاً.. واقترح أن يساوى مرتب الوزير مرتب بروفيسور جامعي(ثلاثة آلاف جنيه).. ثم نضع مرتب كل شهر في مظروف أنيق مطبوعة عليه عبارة.. هي لله لا للسلطة ولا للجاه.. ثم نقبل استقالة من لم تمكنه ظروفه الصحية والنفسية من شغل الوزارة. سيدي الرئيس بعد أن نصلي الجمعة في كاودا بإذن الله تعالى.. ونطهر الأرض العزيزة من دنس التمرد اللعين.. نعود لنرجع إلى بعض الأورام السرطانية التي بدأت تنمو في أجزاء مهمة من جسد هذا الوطن الكريم.. كيف لا وهناك من يتاجر بقوت هذا الشعب الكريم الذي وقف معك في أشد المحن.. سيدى الرئيس هناك من يعمل في الخفاء ليجهض كل محاولات النهوض.. كيف لا وهناك من يردد عبارة.. سمعنا وعصينا.. أنت تصدر القرارات وهناك من يضرب بها عرض الحائط.. ألم توجه سيدى الرئيس بخروج القطاع العام من الاستثمار.. فها هي وكالة السودان للأنباء تفتتح المزيد من الشركات التجارية والوكالات السياحية.. أنت تصدر قراراً بتمليك العربات الحكومية.. اللوحات الصفراء تمخر عباب شوارع الخرطوم غير مبالية بقرارات الرئيس.. أنت توجه بمحاسبة المتورطين في قضايا الفساد.. ولم نسمع حتى الآن بإحالة ملف فساد إلى القضاء بعد ملف الأقطان.. أخي الدكتور الطيب أبو قناية هل تسمعني. سيدي الرئيس المحروقات أشبه بطاقة الراجل التي ربما الوصول إليها يحدث أثراً كبيراً أكثر من ما يتوقعه البعض من الذين جاءوا إلى هذه المناصب في إطار الحسابات القبلية أو في إطار قسمة السلطة. يروى أن أحد الأمراء كان يرفع يديه إلى السماء.. اللهم اعني على أصدقائي.. أما أعدائي فأنا كفيل بهم.. اللهم آمين جامعة الخرطوم- مدرسة العلوم الإدارية