جوهر ما نشهده اليوم في السودان حول مختلف القضايا، أنه لا يوجد خلاف على ضرورة التضامن السياسي، ولكن الخلاف يبدأ دوماً في الإجابة على السؤال كيف نتعامل مع هذا الموقف بطريقة أولاً تؤدي إلى إنهاء أية قضية بسلام، وتقود إلى وحدة،وتمنع الضرر عن المصالح السودانية الإقليمية وتعظم منها ما أمكن.. وما نشاهدهوقد شاهدناه طوال العقود الماضية كان مبعثه اختلال رهيب في موازين القوى السياسية وما لم يتم تصحيح هذا الاختلال من خلال عملية إصلاح تأخذ وقتها ومداها، فإن ما نشاهده اليوم سوف نشاهده غداً في أشكال متنوعه ، تماماً كما شاهدناه بالأمس في أنماط مختلفة، وإذا عجزنا عن المحافظة على التركيز على المسألة الإصلاحية فليس أقل من التعامل مع سياسات الأمن القومي السوداني بطريقة مختلفة عن الطرق التي تعاملنا بها خلال السنوات الماضية. أريد أن أقول بوضوح، إن الالتزام القومي أمر يرتبط بأدق درجات الحساب السياسي والاستراتيجي، استناداً إلى ماهو متوافر من امكانات وقدرات تخدم أي قرار يتم الذهاب إليه، وإن اللقاءات هي إحدي أبرز آليات العمل المشترك، لكنها ليست الآلية الوحيدة? فضلاً عن أن الشعب السوداني يحتاج في هذه اللحظات إلى خطوات ملموسة. والتحليق في سماوات الأمل والتفاؤل ضرورة لتقوية المناعة الروحية للأمم والشعوب، ولكنه أمر لايجئ بالتمني فقط، وإنما يحتاج إلي إرادة حقيقية للمراجعة والتصحيح بعيداً عن أي حساسيات وتحت مظلة من الاحتكام الصريح للغة العقل، وبالاستناد إلى الفكر المستنير الذي يخلع عن العمل السياسي كل أنماط الجمود والتحجر، من خلال القراءة الدقيقة للواقع الراهن بكل متغيراته، والمستقبل القادم بكل احتمالاته، ولست أتحدث في المطلق أو ابتعد عن الواقع عندما أقول إن معظم الأزمات السودانية على طول التاريخ، لم تنشأ من فراغ، وإنما كان سببها غياب التفكير السليم!، وإن واقع العجز الذي نلمسه جميعاً أساسه وبداياته يرجع لعجز انجاز حلم تنقية الأجواء بيننا، ثم إن هذا العجز لم يكن لينشأ لولا ذلك الداء اللعين الذي استشري في العقل السوداني، وهو داء التلكؤ والتردد في اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، وهذا الداء اللعين ليس مقصوراً على أزمة بعينها، وإنما هو سبب حالة العجز السياسي التي نعانيها تجاه كل قضايانا المصيرية منذ سنوات بعيدة، وليت أولئك الذين يريدون مجرد إبراء ذمتهم بالدعوة إلى لقاءات دعائية، أن يدركوا أن الأمن القومي ليس مجرد معاهدات واتفاقيات, بل يحتاج إلى صيغ متعددة للتعاون الشامل ومد جسور الانفتاح بروح الرغبة في المشاركة، كرقم صحيح يعكس حقائق القوة التي تملكها الأمة... هكذا تفعل الأمم الحية دون أن تغرق نفسها في تشنجات تضر أكثر مما تفيد، ولعلي في البداية أقول، إنه مع إيماني المطلق بأننا جميعاً نقف تحت مظلة السودان، فإن مسئولية المصير المشترك تفرض على كل الواقفين تحت هذه المظلة حداً أدنى من الالتزام بعدم تعريض المصالح القومية للخطر، بقرارات غير محسوبة، ربما تؤدي لتوريط الجميع في صراعات ونزاعات، قد لاتخدم في النهاية سوى مصالح القوى المعادية لنا، من الرائع أن تتحدث جميع القوى السياسية عن الديمقراطية باعتبارها المثال السياسي الذي ينبغي الوصول إليه، ومن المشروع أن تعترض جماعات منا على الطريقة التي تدار بها العملية السياسية في البلاد، بل لعلي أتفق معها في معظم الأوقات، ومع ذلك فإن المعضلة الكبرى أن كل القوى المطالبة بالديمقراطية الكاملة تتجاهل مجموعة من المقومات المطلوبة للعمل من أجلها، وبنفس الحماس الذي يجري من أجل آليات الديمقراطية، فدون هذه المقومات فإن ما يتم السعي إليه يصير وصفة جاهزة ليس لتقدم الدولة والمجتمع، وإنما إلى تدميرهما، وربما آن للجميع في السودان أن يعلموا أنه بقدر ما توجد تجارب ديمقراطية ناجحة في العالم، فإنه توجد تجارب فاشلة، والحقيقة أن الديمقراطية نظام موجود ومرتبط بالدولة ووحداتها السياسية المتفرعة عنها، ورغم أننا نتحدث أحياناً عنها في أحزابنا، أسرنا، ومدارسنا، ومؤسساتنا العامة الأخرى، إلا إن ذلك يجري على سبيل المجاز والاستعارة، وفي بعضها قد نأخذ أجزاء منها ونترك أخرى، ومن هنا فإنه يتعارض مع الفكر الديمقراطي كل ما يتعارض مع وجود الدولة وقوتها وسيطرتها على شعبها ضمن حدود معلومة، فالحفاظ على حدود الدولة وأمنها القومي، ليس وحده الذي يجعل الديمقراطية آمنة من التهديد، بل أيضاً أن يكون للقانون هيبته واحترامه، فالأصل في الدولة هو أنها تترجم نفسها وسيادتها التي هي السيطرة على أراضيها وحدودها من خلال القوانين، ومنذ فجر التاريخ فإن القوانين هي التي فرقت بين الدول المتحضرة والدول البربرية، والسودان منذ البداية ومازال ويظل، ليس فجراً للضمير فقط، وإنما كان أيضاً فجراً للنظام والقانون، وليت الشعب يعي أن السودان بهذا الوضع الحالي يمثل هزيمة كبرى لكل من تآمر عليه، وفي مقدمتهم أمريكا التي تحاول دائماً إلغاءه وكذلك حلفاؤها الذين يسعون إلى تفتيته، وهزيمة لعملائهم ومنفذي سياستهم في الداخل أولاً والخارج ثانياً، ومن هنا فإنني أُحذّر من خطر المساهمة في حملات التشكيك والتحريض، لأنها تُخدم أعداء السودان! فحرام التحريض والتشكيك وحرام أيضاً أن ننسف من خلاله أمننا القومي، ومن المؤسف أن نشاهد بقايا الفلول تحاول من جديد استعمال (العدة القديمة)، للتفرقة والتحريض والدس، وحتى التخوين بغية إعادة بسط سيطرتها على المجتمع المدني السياسي، فهؤلاء يريدون بكل بساطة أن يقولوا للعالم إننا شعب منقسم على نفسه، غير موحّد، وأن خلافاتنا مازالت قائمة، والشعب قاصر، وأننا وحدنا قادرون على تأمين حكم سياسي مستقر للسودان، وهذا هراء، لا يُصدقه أحد، فحذار مُجدداً الوقوع في الفخ، فخ التفرقة والتحريض وضرب الإستقرار الأمني.. فلم يبقَ أمامنا إلا معركة واحدة لنتوّج انتصارنا نهائياً على الظلم والظالمين، والمحتالين والمشككين، معركة واحدة هي معركة مواجهة الاستحقاق السوداني بلوائح واحدة موحّدة، تدافع بصوتٍ عالٍ عن أحلام الشعب وطموحاته وتطلعاته، هذا الشعب لن يرحم بعد اليوم من يساهم في اغتيال حلمه.