في صبيحة الأربعاء الثاني من مايو الجاري، شهدت قاعة الشارقة بالخرطوم فعالية قانونية وفكرية متميزة، إذ عقدت منظمة المنبر القانوني منتدى تفاكرياً حول الرقابة البرلمانية والقضائية على التشريعات الفرعية، وتحديداً اللوائح التنفيذية. أمّ المنتدى جمع غفير ذو حضور نوعي رفيع، ضم المشتغلين بمهنة القانون، أساتذة ومحامين وطلاب دراسات عليا، علاوة على ناشطي حقوق الإنسان ورموز المجتمع المدني وبعض القيادات السياسية والإعلامية، بيد أن السواد الأعظم للمشاركين كان من عضوية المنبر من المحاميات السودانيات، والذي يعتبر هذا المنشط باكورة وفاتحة حراكهن التوعوي لنشر الثقافة القانونية، والارتقاء بمهنة القانون، وإدارة الحوار حول القضايا المرتبطة بحقوق الإنسان وقيم العدالة، دون خلفيات سياسية، أو أجندة حزبية. قدمت في اللقاء ورقتان، الأولى حول الرقابة البرلمانية تشرفت بعرضها، والثانية في شأن الرقابة القضائية عُهد بها إلى البروفيسور العالم د. يسن عمر يوسف أستاذ القانون الدستوري بجامعة النيلين. في هذه الحلقة من «أوراق برلمانية» والحلقات التالية، سوف أحاول تلخيص المحاور المهمة للورقتين المشار إليهما تعميماً للفائدة، وتمهيداً لمواصلة التداول حول الأمر في ملتقيات أوسع نطاقاً وأكبر تمثيلاً، رؤي أن تنظم مستقبلاً، وتدعى لها القطاعات والمؤسسات والأجهزة ذات العلاقة، كالبرلمان ووزارة العدل ونقابة المحامين والسلطة القضائية وغيرها. وقبل الولوج إلى جوهر ورقتي حول الرقابة البرلمانية، يجدر بنا تعريف المقصود بالتشريع الفرعي، الذي تمثل اللوائح التنفيذية، أبرز وأهم أنواعه، والدور الذي تلعبه هذه اللوائح في تنظيم وضبط النشاط العام لأجهزة الدولة، وفي تحديد المراكز القانونية للأفراد والجماعات والهيئات الاعتبارية. وكما هو معروف، فالتشريع- أي سن القوانين- هو تعبير عن الإرادة العامة للمجتمع، والمفترض في التشريع أن يعكس القيم والمثل السائدة في ذلك المجتمع في الظرف والوقت المعين، من أجل هذا عهد المشرع الدستوري بمهمة صنع القوانين أو القواعد العامة إلى البرلمان، لأنه يضم ممثلي الشعب، الذين ينوبون عنه في ممارسة السيادة الشعبية التي ترد كل صغيرة وكبيرة في الشأن العام إلى جمهرة الناخبين وإلى الإرادة القومية. بيد أن التشريع نفسه ينقسم إلى عدة أنواع يحددها المعيار المستخدم للتصنيف والتقسيم، فهناك التشريع التأسيسي وهو الدستور، في مواجهة التشريع العادي وهو القانون، وهناك التشريع المستعجل (المراسيم المؤقتة)، في مقابلة التشريع المتمهل وهو مشروعات القوانين، وهناك- وهذا الذي يهمنا- التشريع الرئيسي، مقارنة بالتشريع الفرعي، وهو تشريع يُعنى بتفصيل ما أجمله التشريع الأصل، وتوضيح ما غمض منه، ولما كانت القواعد القانونية لا تستوي في القوة، بل تندرج وفق نظرية الفقيه العلامة (أوستن)، فإن القاعدة الأعلى تهيمن على القاعدة الأدنى منها مرتبة، تماماً كالرتب العسكرية في الأجهزة النظامية، أو الدرجات الوظيفية في الهيكل التنظيمي للخدمة المدنية. لهذا لا يجوز أن يناقض القانون الدستور، ولا تتعارض اللائحة مع القانون، ولا يخالف القرار المكتبي أو الإداري اللائحة.التشريع الفرعي له عدة مسميات ومصطلحات، مثل التشريع التفويضي delegated legislation، لأنه يستمد قوته القانونية من تفويض البرلمان للوزارات والهيئات سلطة إصدار اللوائح. ومن أسماء التشريع الفرعي Regulations, by laws, Rules, Subordinate Legislation، للتفرقة بينه وبين القانون الأبParent legislation أو القانون الأصل وهو Primary Legislation. ولقد فسرت المادة (3) من قانون تفسير القوانين والنصوص العامة لسنة 1974، كلمة قانون، بأنها تشمل أي تشريع ما عدا الدستور، وتضم القوانين العادية والمراسيم المؤقتة واللوائح وأوامر التأسيس، والأوامر والقرارات الصادرة بموجب قانون. ولقد دار جدل قانوني وفقهي في دول أخرى حول تكييف التشريعات الفرعية واللوائح، هل هي تشريعات لأنها من حيث الموضوع تنطوي على قواعد عامة مجردة وملزمة كالقوانين الأصلية، أم هي قرارات وأعمال إدارية باعتبارها صادرة من جهات تنفيذية مثل الوزراء والمديرين ومجالس الإدارات، وبالتالي لا يجوز إضفاء صفة التشريع عليها لصدورها من جهة غير البرلمان المختص بسن القوانين وإجازة التشريعات، وأهمية التكييف القانوني هذا تنبع من الآثار المترتبة عليه، فإن عددنا اللوائح جزءاً من أعمال الإدارة، جاز الطعن فيها أمام القضاء الإداري بغرض إلغائها إذا خالفت قواعد المشروعية، وهذا هو المعمول به في جمهورية مصر العربية، التي اعتمدت المعيار الشكلي القائم على تصنيف اللوائح كتدابير إدارية لأنها من حيث المصدر صدرت من جهاز إداري، أمّا إذا نظرنا إلى اللوائح من زاوية المعيار الموضوعي، الذي يعتد بطبيعة هذه اللوائح لا بشكل الجهاز الذي أصدرها، وهو المعمول به في النظام القانوني السوداني، إذا تبنينا هذا المعيار، فاللوائح والتشريعات الفرعية هي قوانين لا أعمال إدراية، وبالتالي لا يصح الطعن فيها إلا أمام القضاء من حيث دستوريتها. قد يتساءل الناس لماذا هذا الحديث عن اللوائح التنفيذية، وما هي القيمة العملية للغوص في مشروعيتها وسلامتها القانونية، وللإجابة على ذلك التساؤل المشروع والموضوعي، نقول إن في دولة الرفاهية وأي دولة حديثة، ينظم إيقاع الحياة العامة، وترتب الأنشطة اليومية لأفراد المجتمع عبر اللوائح، التي تغطي مساحات شاسعة من الحراك الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ذلك أن المواطن العادي يُدار ويحرك وتنظم وتقيد تصرفاته بوساطة اللوائح، فحركة سير المركبات العامة، وتراخيص القيادة والعمل والكسب، واقتناء الأموال وتسجيل الحقوق، وإقامة المناشط المختلفة، وممارسة الحقوق وتأدية الواجبات، ودخول البلاد والخروج منها، والحصول على الوثائق الثبوتية، وإقامة المباني، وإدارة المشاريع الإنتاجية، وكل صغيرة وكبيرة تحكمها اللوائح التي تضع الشروط والضوابط وتفرض الرسوم، وتحدد الإجراءات، وترسم خارطة الطريق لكل جهد بشري فردي أو مؤسسي. ولإعطاء فكرة عن الثقل القانوني للوائح والتشريعات الفرعية في بلد كالسودان يطبق النظام الفدرالي على نطاق حوالي سبع عشرة ولاية، ومئات المحليات والوحدات الإدارية، بالإضافة إلى الأجهزة والمؤسسات والوزارات والمجالس المتخصصة القومية، نجد أننا نحكم بقرابة ثلاثة آلاف لائحة، تتدخل في أدق الجزئيات والتفاصيل في حياتنا اليومية... في الحلقة القادمة نواصل الحديث بمشيئة الله.. والله من وراء القصد