لازلت أزعم أن كردفان تراباً وأمة ملهمة للعبقرية والإبداع في كافة ضروب الحياة.. السياسية والوطنية.. الفكرية والاجتماعية.. الثقافية والفنية في بلادنا السودان، وفي التاريخ شاهدي وبر يميني. إن أعظم الثورات المناهضة للاستعمار والداعية للتحرر الوطني والانتماء العقدي، كانت قد اعتملت في نفوس أهل كردفان باكراً، وعبر عنها الشيخ على الميراوي في كادوقلي والسلطان عجبنا في الدلنج، والمك آدم أم دبالوم في تقلي، وثورة أهل تلودي المشهورة، مما شكل فصولاً مهمة في أبواب تاريخ نضال أهل السودان.. وقد قلت مرة أن الإمام المهدي عليه السلام قد ولد بجزيرة لبب بدنقلا، ونشأ هناك على الفطرة السمحاء، ثم حفظ القرآن وتزود بالعلوم الشرعية بالجزيرة.. وسط السودان، ولكنه لما أراد الجهاد والمقاومة أنطلق إلى كردفان، وتخندق في (قدير) فأستلهم الجسارة والبسالة ( اتهوش)، ثم خرج على أعدائه.. أعداء الدين والوطن، فدك حصونهم وبعثر جمعهم، لتظل معركة (شيكان) أهم المعالم في تاريخ المهدية العظيم. جاء الاستقلال المجيد، فوهبت كردفان الأمة السودانية أعظم قادتها، وحامل لواء استقلالها الزعيم إسماعيل الأزهري، سليل الولاية والهداية، ولما تجدد العهد بين الشعب والجيش في الانتفاضة الوطنية الشهيرة في 1985م، تقدم من ذات الأسرة المشير سوار الذهب.. الأديب الخلوق.. أوفى القادة بالوعود، ورد الأمانات إلى أهلها. أما في مجالات الثقافة والأدب فلا نمل الذكر.. حيث يكفي كردفان فخراً أن أنجبت الأستاذ الفاتح النور رائد الصحافة الاقليمية، أول من أسس صحيفة ومطبعة خارج العاصمة، وكان ذلك قبل الاستقلال، كما كانت فرقة فنون كردفان أول فرقة فنية خارج الخرطوم، لم يعقم رحم كردفان عن ميلاد المبدعين في هذا المجال، ومن أراد الشواهد فليرصد سجل المذيعين، ومعدي البرامج، والفنيين، ونجوم الإبداع في الانتاج والتقديم الفني، في هيئات الإذاعة والتلفزيون، والقنوات الفضائية، والصحافة السودانية وغيرها. أما في مجال الدعوة والقرآن، فقد ظلت زريبة الشيخ البرعي تضطلع بنشاط شامل في التربية والاصلاح الاجتماعي ندر مثيله، كما أمضى الشيخ ( أبو عزة) أكثر من نصف قرن من الزمان يجأر بالقرآن، ولا يغادر المكان- شمال شرق أم روابة- ليغادر بدلاً عنه المسيد مئات الحفظة المجيدين كل عام، كما تميز مسيد الشيخ (تكرور) بالرهد بافساح مجال خاص لتحفيظ الفتيات. نهض بالعلم والفتيا بالأبيض في النصف الأخير من القرن الماضي رجال شوامخ منهم.. الشيخ موسى عبد المجيد، والعالم عبد الباقي، والشيخ الداه الشنقيطي، والشيخ مشاور جمعة سهل وغيرهم، فقد شهدت مدينة الأبيض حيناً مترعاً من الفكر والدعوة والثقافة والفنون والرياضة. في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، ضربت موجة عنيفة من الجفاف والتصحر الأجزاء الشمالية من كردفان، مما أدى لآثار سالبة على البنية التحتية الجغرافية والاجتماعية، لينعكس جفاف(البلدان)على (الوجدان)، وبدأت الهجرات والنزوح إلى المدن الكبيرة بالولاية والعاصمة الخرطوم، ونشأت معسكرات المويلح، والشيخ أبوزيد، وأنكسر الخاطر الاجتماعي بسبب الفقر، والضر، والعوز، والتشرد، وما يتبع ذلك من آثار وظواهر سالبة، مما شكل تحدياً كبيراً لقيادة الولاية، والدولة آنذاك. استحدثت أول آلية تنفيذية لمكافحة التصحر وإعادة الإعمار بقيادة الأستاذ / ابن عمر محمد أحمد بدرجة مساعد والي في أول حكومة ولائية بكردفان، مع فجر الإنقاذ، يماثلها مساعد والي للسلام وإعادة التوطين بجنوب الولاية، للتعامل مع آثار التمرد والنزوح، التي بدأت بانضمام بعض المجموعات من أبناء جبال النوبة لحركة تحرير السودان بقيادة د. جون قرنق. لقد تجاهلت الحكومات الولائية التي تعاقبت على ولاية شمال كردفان، خصوصاً هذا المشكل، وترك الأمر لنشاط المنظمات الأجنبية، والوطنية، دون خطة حكومية مركزية، وإشراف حكومي واع، واستراتيجية محكمة، وخطط وبرامج تفصيلية مجازة، مما أسهم في تعقيد الأمور ونقص الاحتياجات الإنسانية لمجموعات سكانية كبرى، لاتزال خارج دائرة الانتاج، وتعيش ظروفاً قاسية مع ضعف الخدمات الأساسية، مما يحتم على ولاية شمال كردفان أن تعكف على دراسة الأمر بالسرعة والجدية المطلوبين، وتكليف بيوت الخبرة المختصة، وتوظيف جهود وخبرات أبناء الولاية في هذا المجال، ثم إنشاء مستشارية أو مفوضية بقيادة دستورية لتنفيذ مخرجات ما تنتهي اليه نتائج الدراسة الشفافة، ونصائح الجهات المختصة، وبناء قاعدة معلومات أساسية، لوضع خطة متكاملة للتعامل مع البيئة والواقع الجغرافي الراهن، بهدف الإخراج النهائي لهذه المجموعات السكانية من دائرة الضعف والفاقة، إلى ساحة الانتاج ورحاب العطاء، والشهامة والمروءة، التي كانت من سجاياها وخصالها المعروفة، قبل أن يمضغها الفقر ويطحنها الجفاف