رحل من دار الفناء الى دار البقاء السر مدى عميد الأدب الشعبي في السودان الأستاذ الطيب محمد الطيب الذي قبر في رمسه، ولكن بقي اسمه حياً متوهجاً، وسيظل باقياً خالداً بأعماله المتميزة وعطائه الثر الغزير الوفير. والأستاذ الطيب عصامي، علم نفسه بنفسه بعد أن نال تعليماً نظامياً لم يزد على إكمال الصف الثالث بالمرحلة الأولية، ولكنه استطاع بجده واجتهاده وذكائه الحاد الوقاد، وهمته العالية، أن يمشي بقوة وعزيمة صلبة في طريق وعر، جامعاً وراصداً لتراث أمته، وطاف أرجاء البلاد المختلفة، وخالط أهلها في كل بيئاتهم وبمختلف مشاربهم ومستوياتهم في البوادي والحضر، وجلس في الأسواق وشهد المنتديات، وتغلغل في المجتمعات وهو يختزن تلالاً شاهقة من المعارف والمعلومات في شتى المجالات، وهو نسابة لا يشق له غبار، لا يجارى أو يبارى، وارتقى مكانة سامقة وقمة شاهقة باعتراف أهل الاختصاص من كبار العلماء.وكنت ذات يوم أقلب في قصاصات أوراق وصحف قديمة بمكتبة أحد الأصدقاء، أستوقفتني كلمات متقتضبة للأديب الأريب العميد الراحل عمر الحاج موسى، نعى فيه بوصفه وقتئذ وزيراً للثقافة والإعلام «ادفريني»، وتعجبت لغرابة الاسم وسألت عنه الأستاذ الطيب، فقال لي كيف لا تعرف ادفريني وأنت من شمال الجزيرة التي عرف فيها أيضاً الشاعر والمغني الشهير بابا، وذكر لي أن ادفريني هو مغنٍ كان يعتبر أحسن من يجيد دق الدلوكة، وكانت له انداية مشهورة في منطقة الكاملين تحمل اسمه، ثم طفق يحدثني عن مغنية شهيرة بمنطقة كركوج اسمها مريم قلبي، ومن عجب أنه تحدث في جلستنا تلك وبنفس الإسهاب عن المجاذيب ودامر المجذوب، وعرج في حديثه بعد ذلك عن الشيخ العبيد ود بدر والشيخ فرح ود تكتوك، وهذا يؤكد أن الأستاذ الطيب كان منفتحاً غير منغلق، ويلم بما يدور في القمة والقاع.لقد عمل الأستاذ الطيب في شعبة أبحاث السودان بجامعة الخرطوم منذ عام 1956 والفضل في ذلك بعد الله سبحانه وتعالى يرجع للبروفيسور يوسف فضل حسن مدير الشعبة الذي أدرك بنظرته الثاقبة وفراسته، قدرات الأستاذ الطيب الذي زامل في الشعبة في ذلك الوقت صديقه الباحث الأستاذ عبد الله علي إبراهيم- بروفيسور فيما بعد- وبجانب عمله في شعبة أبحاث السودان ساهم بتقديم بعض المواد التراثية في الإذاعة، ثم أخذ منذ عام 1967 يقدم برنامجه التلفزيوني الشهير «صور شعبية»، وإن حصيلة ما قدمه فيه على مدى سبع وعشرين سنة يعتبر ثروة قومية ينبغي الاهتمام بها والمحافظة عليها لتبقى زخراً باقياً للأجيال المعاصرة ولأجيال قادمة لازالت في رحم الغيب، وقبل سنوات حورب البرنامج بكل أسف ووضعت العراقيل والعوائق في وجه الأستاذ حتى اضطر للتوقف عن إعداده وتقديمه بكل أسف- وللأمانة والتاريخ، فإن الأستاذ الطيب ومنذ بداياته الأولى وجد في صديق عمره عمنا الأستاذ عبد الوهاب موسى الإداري والأديب، خير سند وعضد في مسيرته الحافلة بالإنجازات الباهرة.وقد رفد الأستاذ الطيب المكتبة السودانية بأعظم الكتب والمراجع المهمة، وترك وراءه تسعة كتب بين مطبوع ومخطوط هي.. «الشيخ فرح ود تكتوك حلال المشبوك»، «المسيد»، «دوباي»، «الانداية»، «ذاكرة قرية»، «بيت البكا»، «الحمران وتراثهم الشعبي» و«البطاحين وتراثهم الشعبي»، ومجموعة مقالاته التي تنشر بالصحف والمجلات.ويعتبر الأستاذ الطيب قنطرة واصلة بين الصفوة والجماهير، ويجد تقدير واحترام هؤلاء وأولئك، ويعرف العلماء قدره وعلى رأسهم صديقه وقريبة العلامة البروفيسور عبد الله الطيب الذي اختاره عضواً بمجمع اللغة العربية بالسودان، وكان الطيب يجد تقدير واحترام زملائه الفلكلوريين من حملة درجة الدكتوراه والأستاذية، أمثال بروفيسور سيد حامد حريز وبروفيسور عبد الله علي إبراهيم، وبرفيسور أحمد عبد الرحيم نصر، وبروفيسور محمد المهدي بشرى وغيرهم، وكان يجد احترام وتقدير البروفيسور محمد عمر بشير الذي أوصى بتعيينه محاضراً بشعبة الدراسات السودانية بجامعة أم درمان الأهلية التي عمل بها الأستاذ الطيب عدة سنوات، وقبل أكثر من عقدين من الزمان، كان الأستاذ الطيب وبروفيسور حريز يحرران معاً صفحة أسبوعية خصصاها للفلكلور والتراث الشعبي، وأمر بروفيسور حريز الذي حصل على شهادة الدكتوراة في الفلكلور من جامعة انديانا بالولايات المتحدةالأمريكية، ومدير معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية، فيما بعد، أمر بتهذيبه وتواضعه الجم وخلقه الرفيع أن يوضع اسم الأستاذ الطيب على اليمين قبل اسمه، وكان يقدمه على نفسه في كل محفل يضمهما معاً. وإن الإنسان الطيب سمح النفس وتتجلى طيبة نفسه عندما أصدرت كتابي الأول عن «عبدالقادر ودحبوبة»، وكنت آنذاك شاباً صغيراً في أوائل العشرينيات من عمري، وأولاه الأستاذ الطيب اهتماماً فائقاً أخجل به تواضعي، ووزع منه على أصدقائه ومعارفه تشجيعاً لي، وكتب مقدمة كتابي عن الشيخ الطيب ود السائح وصحبني معه في إحدى زيارته لأم ضواً بان. هذه شذرات عابرة، وسأنشر دراسة تفصيلية عن عميد الأدب الشعبي في السودان، وفي الندوة التي عقدت مؤخراً بقاعة الشارقة خرج أحدهم عن النص وتحدث عن الاتجاه السياسي للأستاذ الطيب، وذكر معلومات خاطئة نفاها أحد أقرباء الأستاذ الذين حضروا الندوة، والأستاذ الطيب كان صاحب نظرة كلية وبصيرة نافذة، ولم يكن يخوض في التفاصيل ولم ينشغل بالسياسة بطريقة ديماجوجية، ولكنه كان مشغولاً بالوطن وكان حزيناً لأن البعض في نظره يفصلون بين السياسة والأخلاق، وكان كزرقاء اليمامة يرى شجراً يمشي وكان يخشى من حدوث انهيار أخلاقي لا قدر الله، وهو الخبير والعليم بالبنية التحتية للمجتمع السوداني، وكان ينادي بالربط بين الأخلاق والسياسة. وتقتضي الأمانة التاريخية أن أذكر أن الأستاذ الطيب قد وجد التقدير في الجامعات ودور العلم ومنح شهادة ماجستير فخرية من جامعة الخرطوم، ومنح شهادة دكتوراة فخرية من جامعة الجزيرة، وقد وجد تكريماً أفضل في عهود حكم سلفت، ولكنه لم يجد التكريم اللائق به في عهد الإنقاذ، ولكن يحمد للأستاذ علي عثمان نائب رئيس الجمهورية، أنه وجه بتكريم الأستاذ الطيب بعد وفاته بإعادة طباعة كتبه التي نشرت قبل ذلك وطباعة مخطوطاته التي لم تطبع، وقد أوفى بما وعد ورعى والي ولاية الخرطوم ووزير الثقافة الولائي هذا المشروع الذي نفذه باقتدار الإعلامي الهمام الأستاذ الطاهر حسن التوم مدير هيئة الخرطوم للطباعة والنشر، الذي طبع ستة كتب ووعد خيراً بطباعة الثلاثة كتب الأخرى. رحم الله الأستاذ الطيب وجعل قبره روضة من رياض الجنة.