عقب وصولي القاهرة مباشرة طلبت من الإخوة في سفارة السودان في القاهرة إمكانية ترتيب زيارة لي لمقابلة المحكوم عليهم بتخطي الحدود خاصة أن من بينهم أقارب دم ولحم وأن زيارتي ستتيح لي بصورة عامة أن أقف على حالة المحكوم عليهم لأنقل بالأمانة حقيقة ما يجري لهم فكان الاتصال من جانب المستشار حاتم لأحد العاملين النشطين في السفارة ممن تكرر زيارته لنزلاء سجن القناطر الخيرية، فالزيارة للأقارب مهمة، ثم إن أشواقي الصحفية استبدت بي لأنقل الصورة التي سأعيشها معهم لذويهم وأسرهم في السودان، فالأمر عندي تعدى الزاوية الضيقة والخاصة للعامة وتم عمل الترتيبات والموعد. المسافة بين القاهرة والقناطر الخيرية بالتاكسي الخاص تبلغ قرابة النصف ساعة، فوصلت هناك ومعي المدرب السوداني هاشم دجلة كما يحلو لنا أن نسميه بمصر والسودان، وكانت التعليمات من بوابة السجن ابتعاد العربة كثيراً، فابتعدنا بها لما يقارب الخمسمائة متر أو أكثر. وفي البوابة الأولى تم تفتيش المحتويات التي أحملها قبل أن أدخل لتسجيل أسماء المطلوب زيارتهم وبيانات بطاقتي، ولهذا الأمر قصة. في الحقيقة قدمت أسماء النزلاء فسمحوا لى بثلاثة بدلاً من سبعة، وترددت كثيراً في إبراز بطاقتي الصحفية التي كانت معي، تهيبت الموقف فربما يكون وجودي غير مرغوب فيه وربما أن زيارة الصحفي تتم وفق طرق أخرى، وربما أن زيارتي تزعج سلطات السجن أو تضايقهم وربما تضع الإخوة في السفارة في حرج وربما وربما... ولكن حسمت الأمر وقدمت البطاقة وتخطيت العقبة الأولى ولكن المسؤولة طالبتني أن أحمل جواز السفر في المرة القادمة فوافقتها وشكرتها. وبعد إجراءات دقيقة ومعقدة أكثر من اللازم لتفتيش المحتويات التي أحملها احترمت هذه الإجراءات فهم يقومون بعملهم، بل ويتقنونه مهما كان رأينا. بعدها جلست في إستراحه أقرب للخمس نجوم ويشاركني الجلوس فيها بعض الزوار أغلبهم من المصريين وحمل المسؤولون في السجن عني أسماء المطلوب زيارتهم وجاءني من ذهب فى طلبهم والمناداة عليهم معتذراً على التأخير ويقول إن السبب يعود لأولادك فقد كانوا يغطون فى نوم عميق، وكانت الساعة وقتها العاشرة أي الحادية عشرة بتوقيت السودان، فاعتبرت ذلك مؤشراً طيباً للتعامل الكريم خاصة بعد أن أكد لي شبابنا ذلك. قبل أن يصلنا المحكوم عليهم من شبابنا دعاني أحد القائمين على السجن في مودة بالغة لتناول الشاي وقبل أن يصل شبابنا لمقابلتي كنت أتجول بنظري في ساحات السجن، فوجدته محاطاً بالأشجار والخضرة والماء من كل جانب. وبعد استقبال حميم متبادل بالدموع بيني وبين الشباب كان لابد من سؤالهم عن كيف تبدو معاملتهم، فأذهلني، بل وأدهشني وأعجبني ما قالوه ونقلوه لي من حسن المعاملة، الأمر الذي اعتبره يتجاوز المألوف عن المعاملة في السجون، وهي معاملة دائماً ما تتسم بالغلظة والشدة، فتأكد لي أن الأشقاء في السجن يحيطون هؤلاء الشباب باهتمام شديد وتعامل راقٍ وحضاري لم يجعلهم كما قالوا لي، يحسون لحظة أنهم يعيشون داخل السجن، وقالوا أيضاً إن هناك اهتماماً بصحتهم وعلاجهم من خلال المستشفى الملحق بالسجن، وكل أساليب الحياة الطيبة متاحة لهم، وقال لي أحد كبار ضباط السجن دون أن يدري بأنني صحفي، إنه وبالرغم من أن مصر هي بلد هؤلاء الشباب، إلا أننا في السجن ننتظر على أحر من الجمر نقلهم للسودان لكي يكونوا قريبين من أهلهم وذويهم، وبدا واضحاً أن هؤلاء الشباب الصغار كسبوا عطف أشقائهم وآبائهم في سجن القناطر الخيرية لصغر سنهم وتفانيهم في سماع التوجيهات ولمعرفة القناطر بحقيقة تواجدهم هنا كأبرياء قادتهم الصدفة والصدفة وحدها للسجن، وامتدت زيارتي لأكثر من نصف ساعة دون مضايقة أو المطالبة بإنهائها. ü وأنا هنا أنقل الصورة بكاملها كما لمستها وكما عشتها وكما قدمها لي شبابنا.