استوقفني إعلان صغير و «خجول» في إحدى الصحف الإعلانية التي توزع مجاناً، جاء تحت عنوان: «بيع معاش» وفيه أن جندياً بإحدى القوات النظامية لديه معاش مدى الحياة، قدره مائتا جنيه شهرياً يود بيعه بسعر خمسة عشر ألف جنيه فقط. حزنت للأمر، فالمعاش الشهري لا يكفي صاحبه ولو كان بدون أسرة لأسبوع واحد، فما بالك أن المعاشي يعول أسرة من بين أفرادها تلاميذ في المدارس أو طلاب علم في الجامعات، أو قَُصّر!! الرجل الذي أعلن عن بيع معاشه نشر مع الإعلان رقم هاتفه للراغبين في الشراء، ولا أعرف إن كان قد وجد راغبين في هذا العرض وتلك الصفقة أم لا «!».، وإن كنتُ أرجح أنه خسر قيمة الإعلان في الصحيفة المتخصصة، ولم يجد راغباً في هذا «الاستثمار» طويل الأجل وغير المجدي، في ظل تدهور العملة التي تتناقص قيمتها يوماً بعد يوم دون «ريجيم» أو علاج.. إذ لا يعقل أن يُقْدِم أحد على المغامرة بدفع خمسة عشر ألف جنيه سوداني - أي خمسة عشر مليوناً بالنظام القديم - مقابل أن يستردها بواقع مائتي جنيه شهرياً لمدة خمسة وسبعين شهراً أي ست سنوات كاملة. قطعاً سيكون دافع الرجل المعاشي «المُعْلِن» هو الحاجة، ويبدو أنه قد شعر بأن قيمة ما يتقاضاه من معاش لا يساوي شيئاً أمام احتياجاته ومتطلبات الحياة اليومية، فآثر أن «يبيع» مصدر رزقه القليل بمبلغ «ربما» ساعد في توفير وسيلة تدر عليه مبلغاً أكبر مما يتقاضاه الآن كمعاش. سيكون ذلك الرجل قد فكر في شراء «ركشة» بذلك المبلغ الذي طلبه ثمناً لمعاشه الشهري، على أمل أن يكون عائد «الركشة» اليومي ما بين خمسة وعشرين إلى خمسة وثلاثين جنيهاً في اليوم ويضمن بذلك عائداً شهرياً يتراوح ما بين سبعمائة وخمسين إلى ألف وخمسين جنيهاً في الشهر، ولم يضع المسكين في اعتباره ما يمكن أن ينتج من مخاطر مقابل عدم الخبرة في إدارة مثل هذه الأعمال، ومتابعتها، وربما يصّم آذانه عن قصص كثيرة تحذّر من الدخول في استثمارات مجهولة أو تتطلب خبرة محددة لإدارتها. نتمنى على إدارات المعاشات - المدنية - والعسكرية - خاصة تلك التي تستثمر أموال المعاشيين، نتمنى عليها أن تعمل على إنشاء بنك مختص بالمعاشيين، أو أن تتعاون مع بنوك متخصصة مثل بنك الأسرة أو بنك التنمية الاجتماعية أو غير من البنوك المتخصصة العاملة في مجال رفع القدرات وتحسين الأوضاع الاجتماعية والمعيشية للشرائح الضعيفة والفقيرة، وأن تعمل على «استثمار» هذه «المعاشات» ومساعدة المعاشيين في تمويل مشروعاتهم الصغيرة ذات العائد «الكبير» مقارنة بقيمة ما يعود عليهم من معاش شهري، وأن تكون هناك إدارة مختصة بدراسات الجدوى للمشروعات ذات الصلة بتخصص المعاشي أو عمله السابق الذي كان يؤديه أو يمارسه. هذا أقل ما يجب أن نقوم به تجاه هذه الفئة التي تستحق أن نقف معها وأن نساندها بدلاً من أن نتفرج عليها، وعلى مأساتها التي تتناقلها وتنشرها الصحف.