استمر الجدل حول الدستور واتخذ أشكالاً عديدة طوال العام ونصف العام الذي أعقب انتصار الثورة المصرية، ولا يزال مستمراً، فكما سبقت الإشارة فإن القوى السياسية المصرية وطوائف المجتمع المصري وفئاته جميعها كانت تنظر إلى قضية الدستور باعتباره القضية الحاسمة، وهي «عنوان الحقيقة»- بلغة أهل القانون- بشأن هوية الدولة ومستقبلها ومدى نجاعة التحول الديمقراطي ومفارقتها لدروب الديكتاتورية الوعرة بمداخلها ومذاهبها المختلفة. بموجب الإعلان الدستوري الصادر عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة في 13 فبراير 2011 تقرر تعطيل دستور 1971، والاقتصار على تعديل بعض المواد فيه وليس إعداد دستور جديد، قرر المجلس الأعلى، كذلك، تغيير لجنة التعديلات التي عينها الرئيس السابق مبارك وتشكيل لجنة جديدة تقوم على صياغة التعديلات برئاسة المستشار طارق البشرى، المعروف على نطاق واسع بتعاطفه مع «الإخوان المسلمين»، وضمت كذلك المحامي صبحي صالح عضو اللجنة والذي أصبح فيما بعد وكيل لجنة التشريعات في مجلس الشعب المحلول، كانت نتيجة أعمال اللجنة إجراء تعديلات على خمس مواد من دستور 1971، والغاء المادة 179 منه، وانصبت جل التعديلات على الصلاحيات الممنوحة للرئيس السابق، وتم استفتاء الشعب على تلك التعديلات يوم 19 مارس 2011، ب«لا أو نعم»، وتم تصوير الموافقة على تلك التعديلات من جانب ماكينة الدعاية السياسية لتيارات الإسلام السياسي باعتبارها اختياراً بين الشريعة والدين واللا دين- اختيار بين الجنة والنار- مستخدمة منابر المساجد والمنظمات الدينية والدعوية، فكانت النتيجة موافقة 77% تقريباً من الذين شاركوا في الاستفتاء. وأعقب ذلك اختيار المجلس الأعلى للقوات المسلحة الموافقة على خارطة الطريق التي أعدها المستشار البشرى للمرحلة الانتقالية والمتمثلة في إجراء الانتخابات التشريعية قبل وضع دستور جديد وانتخاب رئيس جديد للجمهورية، ومن ثم انفجر جدل واسع المدى بين أفضلية أو أولوية البدء بدستور جديد أو إجراء انتخابات تشريعية، الأمر الذي بدَّد وقتاً ثميناً في تعديلات دستورية والاستفتاء عليها، ثم الاضطرار إلى إصدار إعلان دستوري في 30 مارس احتوى «60» مادة مأخوذة من الدستور المعطل لتسيير المرحلة الانتقالية من بينها المواد التي جرى الاستفتاء عليها. وكانت القضية الجوهرية في أعقاب الاستفتاء- بحسب الدكتور علي السلمي- هي الخلاف الذي نشأ بين فريقين من المصريين، الفريق الأول يستمسك بكل قوته بما أسفرت عنه نتيجة الاستفتاء وما انتهى إليه من تقرير الانتخابات التشريعية في غضون ستة شهور، يلي ذلك أن يجتمع الأعضاء المنتخبون في مجلسي الشعب والشورى لانتخاب جمعية تأسيسية من مائة عضو تتولى إعداد دستور جديد في موعد غايته ستة شهور من تاريخ تشكيلها، يتم الاستفتاء عليه خلال خمسة عشر يوماً. ويؤكد المناصرون لهذا الرأي والمتمثلون بالدرجة الأولى في جماعة الإخوان المسلمين والجماعات السلفية والأحزاب ذات المرجعية الدينية وعناصر من الحزب الوطني المحلول. إن الإسراع بإجراء الانتخابات التشريعية على النحو السابق هو أمر ضروري لاستعادة الاستقرار وتشكيل حكومة منتخبة تدير شؤون البلاد وتكون قادرة على اتخاذ قرارات مهمة ومحورية لا تملك الحكومة الانتقالية القدرة على اتخاذها، وعلى الجانب الآخر، تحتشد الأحزاب ذات التوجه الليبرالي وأغلب اتحادات وإئتلافات شباب الثورة للمطالبة بحتمية إعداد الدستور أولاً، ثم إجراء الانتخابات الرئاسية تليها الانتخابات التشريعية، باعتبار ذلك هو المنطق الدستوري والقانوني والسياسي الصحيح الذي يؤسس لدولة ديمقراطية حديثة، ويتجنب سيطرة فصيل معين له أغلبية في مجلسي الشعب والشورى في وضع دستور لا يعبر عن إجماع وطني وتوافق كل طوائف الشعب، وأيد هذا الرأي أغلب المشاركين في اجتماعات الحوار الوطني ومؤتمر الوفاق القومي اللذين انعقدا في شهر مايو 2011 ورأسهما كل من الدكتور يحيى الجمل ود. عبد العزيز حجازي، وتم التعبير خلالهما عن أن إجراء الانتخابات التشريعية قبل إعداد الدستور هو قلب للأوضاع الطبيعية يماثل «وضع العربة أمام الحصان». تمسك المجلس الأعلى بخطته للمرحلة الانتقالية بإجراء الانتخابات التشريعية أولاً، إلا أن موعدها قد تأجل من 30 سبتمبر إلى 28 نوفمبر وتمت دعوة المجلس الجديد للانعقاد يوم 23 فبراير 2012، بينما كانت حكومة عصام شرف- التي اتسم أداء رئيس وزرائها بالضعف- تحاول دونما جدوى مقاومة التفلتات الأمنية والاضطرابات والاحتجاجات والاعتصامات الفئوية والثورية، واضطرت في النهاية إلى التقدم باستقالتها في 20 نوفمبر 2011 عقب أحداث العنف الأمني مع المتظاهرين في شارع محمد محمود القريب من وزارة الداخلية، وحينها بدا واضحاً أن إدارة التحول الديمقراطي في أعقاب الثورة تتعثر، فعملية التحول الديمقراطي، لكي تؤتي أكلها، يجب أن تتم في إطار توافق مجتمعي لضمان نقل السلطة إلى رئيس منتخب وحكومة مدنية منتخبة ديمقراطياً في جمهورية يحكمها دستور جديد وبيئة تشريعية ونظامية مواتية للتطوير الديمقراطي، وهذا ما افتقر إليه مسار الثورة المصرية خلال المرحلة الانتقالية التي أعقبت إسقاط النظام. وقد أعد د. علي السلمي خلال توليه لمنصب نائب رئيس الوزراء للتنمية السياسية والتحول الديمقراطي «مبادرة لإدارة عملية التحول الديمقراطي»، عرضها على الحكومة والمجلس الأعلى للقوات المسلحة وعلى القوى السياسية المصرية جميعها لكنها لم تجد صدى أو استجابة، فقد سبق «سيف الإعلانات الدستورية» العذل، وأصبح السلمي وحكومته كمن يؤذن في مالطا، وانطوت المبادرة على خطة مفصلة للخروج بالمرحلة الانتقالية من الأوحال وحالة التخبط المسيطرة، فشملت عناوينها أهداف التحول الديمقراطي وعناصر التحول وبرنامجاً وطنياً للتنمية السياسية، ومسارات التحول التي تبدأ بإسقاط النظام القديم وإشاعة مناخ الحرية وتدعيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة على قاعدة حكم القانون. وبناءً على ذلك تقدم السلمي بمبادرته تلك إلى المشاركين في مؤتمر الوفاق القومي، الذين أمَّنوا على سلامة توجهاتها، ما حدا به إلى اقتراح فكرة «وثيقة إعلان المباديء الأساسية للدستور» نشداناً للتوافق المجتمعي بين طوائف الشعب على دستور قومي ينال رضا الجميع ويحقق أهداف الثورة في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. ü ويستعرض السلمي في كتابه «التحول الديمقراطي وإشكالية وثيقة المباديء الدستورية» كل المحاولات المبذولة من جانبه- عندما كان في الحكومة- ومن جانب الأحزاب والقوى السياسية الأخرى من أجل تهيئة مناخ توافقي على المباديء الأساسية التي يجب البناء عليها تمهيداً لكتابة دستور دائم، والتي باءت كلها بالفشل جراء الصراعات السياسية والآيدولوجية، والتي كان آخرها «وثيقة إعلان المباديء الدستورية» الصادرة في أكثر من نسخة في كل من 6 و13 و22 من أغسطس 2011، والتي- للمفارقة- تنص في بندها الثاني على أن: «الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية، و(مباديء) الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، ومباديء شرائع غير المسلمين هي المصدر الرئيسي للتشريعات المتعلقة بأحوالهم الشخصية وشؤونهم الدينية». وتنص الوثيقة على مجمل المباديء الأساسية المعهودة في الدساتير الديمقراطية، كسيادة الشعب والنظام الجمهوري وسيادة حكم القانون واستقلال القضاء وصيانة الحقوق والحريات العامة، ومع ذلك وجدت الوثيقة بتعديلاتها المختلفة مقاومة شرسة من قبل حزب الحرية والعدالة وحزب النور السلفي والتيارات الإسلامية عموماً، وكانت الحجة التي تذرع بها كل هؤلاء ليس انتقاصها من الدين الإسلامي الذي نصت على أن تكون «مباديء شريعته هي المصدر الرئيسي للتشريع»، إنما هي وضع القوات المسلحة المميز، الذي يجعل موازنتها «بنداً واحداً» في الميزانية ويقتصر مناقشة شؤونها الداخلية، على المجلس الأعلى للقوات المسلحة. واتضح للجميع فيما بعد أن تلك لم تكن أكثر من ذريعة وأن هذه القوى والتيارات لديها تصوراتها الخاصة التي تريد إنفاذها لحظة كتابة الدستور.