مع زخات مطر خفيف، وبين باقات زهور وورود، ورائحة الدعاش مع النسيم، انفتح امامي باب مكتب الطوارئ بحلة كوكو، ولفحنى هواء مكيف بارد، وجدت نفسي وجهاً لوجه أمام موظف جالس على طاولته، وهو منشغل بجهاز حاسبه الآلي، استقبلني بإبتسامة مرحبة، ثم سألني عن طلبي بأدب ولطف جميل.. قلت له إن الكهرباء مقطوعة في حيَّنا منذ الأمس، ورغم إتصالنا بكم المتكرر لم يرد علينا أحد، ولم تتم إعادة التيار رغم مرور أكثر من 24ساعة..! نظر إليّ مندهشاً ثم قال: هل لديك بيانات عن رقم عامود الكهرباء ورقم الحي..؟ قلت نعم العامود رقم 90 على 6، وبنقرة سريعة في الجهاز.. قال نعم هناك عطل في عدد من البيوت وعددها 6 فقط.. ولكن يبدو أن البيانات التي وصلتنا لم تكن كافية..! طلب مني الجلوس لدقائق.. ثم انشغل بالجهاز، والتفت إلى متهللاً، ثم قال: الحمد لله تم إصلاح العطل وعادت الكهرباء إلى البيوت التي تأثرت بالإنقطاع..! ثم طلب مني أن القي نظرة سريعة على خارطة الحي، في ثوانٍ اطفئت أنوار المكتب ومن على شاشة كبيرة على الحائط شاهدت خريطة مضاءة للمنطقة، وبتظليل على حيَّنا السادس وبمؤشر الليزر، أوضح لي الشاب أن الكهرباء تجري في الأسلاك، وليس هناك اي عطل في طول المنطقة، ثم أشار إليّ أن هناك إصلاحات في الحي الخمسين، وعلى الخريطة هناك علامات تدل على أن العمل جارٍ في الموقع.. ثم قال: لعلك كنت خارج السودان، حيث إن خدمة الإبلاغ عن الأعطال تتم إلكترونياً وعبر الإيميل وعبر الهاتف الآلي، هذا غير المراجعة اليومية المستمرة لكامل المدينة، كما هناك إشارات حمراء تظهر إذا كان هناك عطل في اي موقع.. وأنت بالمناسبة أول زائر للإبلاغ عن عطل منذ ثلاثة شهور كاملة.. أبديت اندهاشي واعتذاري.. ثم أعربت عن سروري بهذه الخدمة المتقدمة التي جعلتنا في مصاف الدول المتقدمة.. شكرته...... و.. جاءني صوتها من أعماق بعيدة وزمن سحيق.. ثم تبينته فقد كان الصوت الذي لا يُنسى أبداً صوت حرمنا المصون وهي تطلب منى أن أصحو واتحرك نحو مكتب الطوارئ للإبلاغ عن الكهرباء، التي ماتزال مقطوعة منذ يومين.. بعد برهة من الزمن تأكد لى أنني كنت في حلم عميق، ولكنه حلم جميل ومنعش.. وأنني تجاوزت الألفية الثالثة التي نعيش بداياتها إلى الألفية الرابعة.. ولكن عدت إلى الالفية الأولى مع صوت المدام الآمر الناهي.. استجمعت قواي، وانطلقت مع جارنا صوب مكتب الطواري، كان المكتب مزدحماً والتلفونات الثابتة لا تكف عن الرنين، وأصوات الحضور تعلو وتعلو تعلن احتجاجها وسخطها من عدم الرد على الهاتف، وعدم السرعة في إصلاح الكهرباء، ويبدو أن العاصفة التي عصفت باجزاء واسعة من الخرطوم كانت السبب في الإضرار بالكثير من أعمدة واسلاك الكهرباء، وقطع التيار الكهربائي في العديد من المناطق.. والطريف أننا وجدنا مكتب الطوارئ شبه مظلم، حيث إن الأنوار كانت خافتة جداً، والموظفان الهميمان يستخدمان ضوء الموبايل الخافت لكتابة البلاغ.. المهم سجلنا بلاغنا وحزننا وغضبنا وخرجنا نبحث عن نسمة الهواء، وعن الشمع وزجاجات المياه الباردة لإرواء عطش الصغار والكبار في البيوت.. وعند منتصف الليل ارتفع صوت التكبير والتهليل مع الصفير والزغاريد إحتفاء بعودة التيار الكهربائي للأحياء..! وفي صبيحة اليوم التالي ومع ونسة الموظفين وأحوال البيوت والأحياء وغلاء الاسعار مع بدايات رمضان، قصصت عليهم قصتي مع الكهرباء ومكتب الطواري، وحلمي الوردي الجميل ثم الواقع الأليم لمكتب الطوارئ، علق أحد الحضور قائلاً: ليتك حلمت بتخفيض أسعار الكهرباء، فمنذ اكتمال سد مروي ونحن ننتظر مكرمة الرئيس والدولة بتخفيض الكهرباء تخفيضاً كبيراً وملموساً، حتى يساعد هذا التخفيض في استهلاك المزيد من الكهرباء، فنحن في حاجة ماسة إلى المكيفات والغسالات وغيرها من الأجهزة الكهربائية، ولكن لغلاء سعر الكهرباء لا نرغب أو لا نستطيع استخدامها..! وعلق آخر قائلاً: الحال في مكتب الكهرباء كالحال في بسط الأمن الشامل، وفي أقسام المرور والحوادث وكل موقع يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالناس ومصالحهم.. لذا نطلب منك أن تحلم لينا أحلاماً وردية لمكتب بسط الأمن الشامل في الحي وفي الحوادث، بحيث يتم القبض على اللص قبل أن يسرق، وتجهيز الإسعافات المطلوبة للمصاب في الحادث قبل أن يصل بوابة المستشفي، وأن يكون الإسعاف مجهزاً بكامل التجهيزات..! وقبل أن نسرف في الأحلام، فوجئنا بكارثة اهلنا في شندي، وضاعت البيوت والحلال والبلال، ولم يعد الأمر إنقطاع كهرباء بل إنقطاع حياة بالكامل.. وتلك مأساة لن تنفع معها الأحلام الوردية، ولا الأماني التكنولوجية بل حلول عاجلة إسعافية ودائمة.. حتى لا تتكرر المأساة من جديد! أما حلمنا ذاك الوردي ومع أحلام زملائنا من الموظفين في الأرض فأهديه إلى المسلسل الإذاعي الاسبوعي(حلم في شليم) عسي أن يكون إضافة مهمة إلى أحلام النوم واليقظة.. وربنا يحقق الأحلام..!