استفحلت أزمة الفقر حتى باقي( الجهل) في كل ركن ولم تبق إلا ثقافة الأزمة حارسة فوق الانقاض!! أكوام من بقايا ألواح الاسبستس تعترض طريقك في مدخل الحي، وهي بقايا سقف مبان قديمة لمدرسة استعملت هذه الألواح في السودان على نطاق واسع لسهولة تصنيعها ولرخص ثمنها من مميزاتها أنها عازلة للحرارة أكثر من ألواح الزنك. رغم أن القوانين ساهمت في تجفيف الأسواق من هذه المادة باغلاق المصنع بعد تحريمها دولياً في السبعينات إلا أن الوعي المحلي لم يستوعب هذا بعد. معلوم أن مادة الاسبستس سامة ومسببة لسلسلة طويلة من سرطانات في الرئة والحنجرة والمبايض والتليف وسكتة الدماغ، ومحرمة من منظمة العمل الدولية. هذه الألواح وخاصةً القديمة منها تتحلل ناشرة في الهواء غاز الاسبستس أو قل بودرة الاسبتس ، عند استنشاقها تترسب في الرئة وغير قابلة للتحلل في أنسجة الجسم. لا يجب أن تنزع من السقوف القديمة بطريقة تفكيك ألواح الزنك ولكن تفكك بطريقة حذرة خاصة تسمي بالتكفين ، لا يقوم بها إلا فنيون متخصصون ، تتم تغطية الألواح مع استعمال كمامات تقي الفنيين شر هذه البودرة التي تتكاثف أثناء العملية لأن الألواح سهلة التحطيم ولا سيما القديمة منها. أما نفايات هذه الألواح تدفن بطريقة أشبه بدفن النفايات الذرية تحفر لها بئر عميقة ثم تردم بطبقة خرسانية لكي تبقي بعيده عن طبقات الأرض. تخيلوا معي كيف سيتم ترحيل هذا الركام السام المكومة في الحي الذي نعيش فيه وفي عرض الطريق وحتى كتابة هذه الأسطر! الذي سيحدث أحد ثلاثة سيناريوهات: 1/ سيدفعون لعمال النفايات لشحنها في عربة الوساخة وربما سيتم طحنها بالكباسات الموجودة في بطن الشاحنة وستتحطم كالبسكويت ، وأثناء هذه العملية ستحدث اصابات في العمال والمارة ، وأخيراً سيلقون بها في مكب الأوساخ وستبقى هنالك الى ماشاء الله، لأن النيران لا تاكلها ولا تتحلل مع عوامل التعرية الأخرى ، ومن هناك ستظل تبعث رسائلها القاتلة!! 2/ سيسحب منها فقراء الحي لاستعمالها في سقوف الراكوبة وقد لاحظت أثناء مروري اليومي أن الأعداد بدأت تتناقص!!. 3/ الخيار الثالث هو أن يؤجروا صاحب كارو وهم كثر يجوبون الحي، لالقائها بعيداً في اى مكان يراه ، ودائماً لا يكون هذا المكان بعيداً عن الأحياء السكنية الأخرى ! وأصحاب الكارو يعرفون هذه الخدمة جيداً ،تماماً كما يعرفها بعض سائقي تناكر مياه المراحيض. باحدى هذه الخيارات أو بالأسوأ منها كأن تترك في محلها ولن يسألهم أحد سيتخلصون منها، وفي كلها هلاك! ماذا فعلت... قلت أفعل شيئاً حسب إستطاعتي ، وبدأت بالعمال الذين كانوا يفككون السقف ويحملون الألواح فوق ظهورهم : - السلام عليكم !! أعمل حسابك يا ابني الشايلو ده يمرضك بالسرطان!! نظر إلىّ ولم استطع أن أقرأ في قسمات وجهه تعبيراً مفيداً لم ينفعل لا يسخط ولا برضي .. قلت في نفسي : إنه محق ربما فشلت في تبرير ادعائي ولم استطع أن أشرح له باللغة التي يفهمها .. وكنت حذراً جداً من أن أظهر بصورة مدعي ثقافة أو متفاني كما يقولون ، وهذا الاتهام الأخير هو المشكلة الكبيرة التي يتمترس عليها العاجزون ثقافياً ، وأصحاب المصلحة، وهم هنا أصحاب المدرسة وادارتها حتى ذلك الذي لا يتهمك بالحذلقه وادعاء الثقافة ينظر إليك بسخريةٍ وتسمع منه تبريراً تقليدياً مثل قولهم (الحكاية بقت بس في بقايا سقف موجودة في الشارع) دوافع الاحتجاج في مثل هذا الكلام مشروعة ومفهومة!! لأن الأزمة أصبحت ( حضارة كاملة ، ولكن لغة الاحتجاج أو المنهج غير موقف ، لأن الموقف هنا إنتحاري مستسلم بل فيه نوع من الهروب وتبرير الهزيمة . قلت أستعين بصاحب الدكان لأنه أكثر ثقافة وانفتاحاً ، وشرحت له ما أفهم عن خطورة هذه النفايات السامة أمام دكانه ، فهم دوافعي ، ولكن يبدو أنني أدخلته هو الآخر في مأزق ، ربما لم يكن من الضروري أن يدفع ثمنه ، قال: بنبرة لم تخل من سخرية: اثنين منك كان حلو مشكلة البلد!! هذا كل ما عنده، وهو بالقطع لم يكن في يده شيء ليفعله رغم أنه معرض للضرر اكثر من غيره . قلت لا يجب أن أثقل عليه لأنه ما زال يرى شيئاً من الترف في هذه المحاولات وهو في الأصل لا وقت لديه. الغريب أن العامل الذي حذرته من قبل أصبح يبادلني وداً عجيباً كلما مررت عليه ، رغم أنه يعمل في نقل هذه الأنقاض السامة إن لم يكن شيء! المنصورى ذلك الشيخ الوديع الذى أشاركه (برش) الصلاة ، يعيش على عربة كارو ، يستدعونه بالموبايل ليقدم خدماته في الحي . اذا انقطع الغاز في منزلك وانت في بورتسودان مثلاً يقوم بتبديل الأنبوب ويضمنك حتى تعود ، هكذا يقدم الضمان في دكاكين الغاز والمغالق . انزعجت جداً عندما رأيت هذا الشيخ يقف بحماره فوق هذه الأنقاض السَّامة ، صرخت فيه : أوعك ترحل البلاوي ديه!! شرحت له ما أمكن البوح به . استجاب فوراً كعادته ، ربما ليس لأنه اقتنع بما أقول بل لأنه مؤدب لا يؤذي أحداً بنقد ولا حتى باعتراض، تحمست أكثر وقلت له: لو أدوك مليون جنيه ما تشيل!. لم يقل شيئاً ربما لأن الأمر مستحيل ولكن في لمعان عينيه! قرأت سحابة من السخرية، وكأنه يقول لى : هذا الرقم كبير! والفقر مقيم. ولكن من حسن الحظ إدارة المدرسة لن تدفع له أكثرمن عشرين ألفاً لأن الأمر في نظرها مجرد نقل لنفايات عادية. ومن يقل غير هذا سيواجه نقداً لاذعاً يحرسون به مصالحهم من نوع : يآخي ما تتفلسف !! ولهم كامل الحق لأن الاعتراف بهذه المشكلة سيكون ثمنه باهظاً ، والأسئلة هناك ستكون مثل: كيف تركتم التلاميذ يتنفسون في غرف مسقوفه بهذه المواد السامة كل هذه المدة؟! وما هي الخسائر الممكنة ؟ وكيف سيتخلصون من هذه النفايات التي توضع الآن جوار الباب؟ أسهل طرق الهروب من المشكلة هو نوع من الارهاب الفكرى لاسكات الأصوات المعترضة ولا ننسى أنهم يستطيعون اقناع الناس لأنه من السهل التلاعب بوعي يحمل في احشائه جروحاً تاريخية . القابلية لقبول الاستبداد والعبودية موجودة، يعبرون عنه بمثل قولهم(إنت في شنو والناس في شنو!) معلوم أن هذا الفهم هو إحدى موبقات ثقافة المجتمعات التي طال بها المقام في كهوف أبوة مغلقة: دينية أو قبلية وهي سبب غياب(الوطنية) وعدم إحترام الحق العام . ثقافة تخشى التغيير والغريب أن صاحبها يحاول أن يمنطق خوفه ليبقى في دعة الإستكانة والعبودية. كلام مثل هذا تسمعه أيضاً في مجالس السياسة، مثل قولهم (من هو البديل) وعندما تقول الحرية هي البديل يقول لك أكثرهم ثقافة الحرية لها ثمن ولو تأمل قليلاً سيجد أن الذي يدفعه في الصندوق القومي اكبر بكثير مما سيدفعه ثمناً للصندوق الجديد!! هكذا يتساقط ضحايا أزمة الوعي وهكذا تغلغلت أزمة الفقر حتى تركت مساحات كبيرة للجهل لكي يبيض في كل ركن ، وهكذا أصبحت الأزمة ثقافة ، هذه النقلة النوعية هي أخطر مراحل تطور الفقر الى قضايا شائكة، ثم الى مشكلة، ثم الى أزمة،ثم الى ثقافة!! الخطورة تكمن في أن الحلول لا تأتي في مثل هذه الأجواء، إلا من الجذور وعند الحلول الجذرية لا تبدأ الحلول إلا على حساب ضحايا بشرية، مثلاً: ، لكي يفهم هؤلاء خطورة هذه السقوف لابد من ضحايا يراهم الناس بام أعينهم ، عقول لا تفهم إلا فوق الاشلاء. وهكذا أيضاً اذا استحالت الأزمات السياسية الى ثقافة في وعي الناس مثل : مصطلحات(الطابور الخامس) والعمالة ، ومعسكر الكفر والديمقراطية الفوضوية . لن تكون هناك حلول سوى دماء تراق ثمناً للثورة كما يحدث الآن في بلدان ( الرَّبيع العربي).