في ثاني وثالث ورابع أيام العيد كنت مرافقاً لابنتي «مرح» المريضة والتي عانت بسبب الصيام.. وبسبب النظام الغذائي الصارم الذي تتبعه، فاحتاجت إلى متابعة حالتها وعمل «دربات» مختلفة المهام لها.. ولما كان ذلك في مستشفى البراحة فلم تشعر بضيق في البقاء بالمستشفى طيلة الأيام.. ورغم إن ابنتي مرح بمرضها «جابت لى الكلام» فعندما عرف ذلك الزميل محمد لطيف إذ خاطبها قائلاً: ده مرض ناس فقرا.. وانت أبوك إعلامي كبير.. وحقيقة لقد نصحتها بعدم الصيام بسبب ضعفها البائن.. ونظامها الغذائي الصارم.. فلم تحفل بي لأنها وأخوانها يروني مسلماً متحرراً أو فيه شوائب علمانية.. فلا يحفلون بآرائي في أمور الدين، فمرات مثلاً تكون المياه قاطعة وبدخل المغرب فأراهم يريدون أن يقطعوا مسافات ليحضروا الماء من «سبيل» في أقصى الحي للوضوء لصلاة المغرب.. فأقول لهم تيمموا.. فهنالك رخصة.. فينظرون إلي شذراً.. يتناسون إنني درست التربية الإسلامية ودرستها، وقرأت كثيراً في كتب الحضارة والفكر الإسلامي.. وأنا محب وعاشق لدرجة الوله لحبيبي وقرة عيني سيدي وسيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.. ومع ذلك لا يحفلون بفقهي المتواضع.. قلت لهم ستموتون وأنتم لم تستخدموا أي رخصة، والله يحب أن تؤتى رخصه.. ما علينا الشاهد إنني وأنا أمر صعوداً وهبوطاً.. في المستشفى التقي بالناس ونسلم ومرات نتونس.. فكان أن نادتني فتاة على مشارف الثلاثين.. فعرفتني بنفسها فسلمت عليها.. فلم تترك يدي إلا بعد مسافة، رأيت إنها إن طالت أكثر ستريب الناس، وهم فعلاً قد بدأوا في الدخول في حالة الارتياب.. لاحظت ذلك في نظرات البعض.. السوداني تفضحه عيونه.. وهو من أقوى البشر في استخدام لغة العيون فلدينا عبارات.. حَدّر.. عينو حاره.. عينو طايره.. عينا بيضا.. بطلع عينك.. بقلعوا من عيونك.. «عينو مكسوره» وهناك طبعاً عين الحسود.. المهم.. أخذت أبرر الموقف بقناعتي.. إن الإنسان من حواسه المهمة والتي لا يستخدمها في التعبير حاسة اللمس.. نحن أيضاً أكثر الشعوب دفئاً إنسانياً.. ألا ترى ذلك في سلامنا بالأحضان و «القلدة» التي تطول وتقصر وتشتد وترخي- حسب كمية الأشواق أوحجم الغياب- وقد استمعت إلى كلمة القلدة هذه في حديث لأم المناضلين فاطمة أحمد إبراهيم تحكي لقاءها بالرئيس البشير فقالت في بساطة شجية.. «أها قام البشير قلدني أنا طوالي قمت قلدتو».. هذا التعبير والموقف ذاته «صنع في السودان» حصرياً نعود للفتاة.. التي انتقلت إليها المشاركة عبر اللمس.. الدفء الإنساني هذا.. لأنها كانت صادقة في تقديرها وأنا كنت متجاوباً مع حالتها كون إنها مريضة والمرض ألم.. والألم شيء خاص.. إن الملامسة هذه لغة مشبوبة بالعاطفة وسريعة ايصال المشاعر.. هو إحساس عالٍ بالحاجة إلى المشاركة.. ألاحظ إنني مثلاً عندما يدوس أحدهم أو أحداهن على أصبع قدمي المجروح أتألم.. ولكن ربتة على كتفي.. أولمسة على يدي.. أوعلى ظهري كانت تكفي لأتجاوز الألم فرحاً بهذا التعبير الإنساني النادر الاستخدام.. وما «التبتبه» التي تبذلها الأم لوليدها حتى ينام سوى لمسات لها إيقاع حلو تجعله ينعس وينام.. ومع استخدامنا لحواسنا على نحو ما أشرت ولدي تحفظ.. ففي حاسة البصر قد نخلق لغة للعيون، ولكننا لا نستغل البصر في التمتع بخيرات الله من طبيعة غناء، وأفق ممتد، ووطن جميل.. ولا نستغل الشم في معانقة الأريج والطيب ولا نرهف السمع للراقي من الموسيقى والعذب من الحديث.. ولا تتذوق الأطعمة والمشاريب نبلعها ونجقمها، أيضاً ننسى فضائل اللمس وضرورة مودة المصافحة وحنية «الربت على الكتوف»