بعد غيبة عن اليمن استمرت أحد عشر عاماً عدت اليها، فوجدت الكثيرين من تلاميذي قد أصبحوا قيادات في مختلف المجالات.. ورغم أننا تعاهدنا ككُتاب وصحفيين سودانيين ذوي علاقة باليمن أن لا نتناول الشأن السياسي اليمني، لأن الحكمة اليمانية هي أرجح من التحليلات السياسية «الوافدة» وتستطيع أن تقفز فوق الأحداث الجسام بمقدرة مذهلة.. مما يجعلنا نجزم أن كميات السلاح المتوفرة في أيدي الشعب اليمني لو كانت متوفرة لدى أي شعب آخر لما أمن أحد على ماله أو عرضه أو نفسه «وكانوا عدموا نفاخ النار» لو اندلعت بينهم ثورة شعبية. ولا أحسب أن ذلك العهد يمنعني من إيراد الشهادة أعلاه، كما لا أحسب أنه يحول بيني وبين إيراد بعض القفشات والنكات السياسية التي تأتي بنكهة البن الأهجري وشاي الكبوس. عندما وصلت مع رفيقي عبد الله الأحدب إلى مدينة تعز منتصف رمضان الفائت، لفتت انتباهنا لافتة جميلة على عمارة حديثة البنيات، تم قصفها أيام الثورة اليمينة، كتب عليها صاحبها «بأي ذنب قُصفت»، وذكرتني هذه العبارة بعبارة كتبها أهل مدينة ذمار على برميل قمامة في مدخل المدينة وبخط جميل: «ابتسم أنت في ذمار» وأهل ذمار «في وسط اليمن» اشتهروا بالنكتة السياسية، فعندما زارهم الرئيس الأسبق السلال قادماً من مدينة «المخا» على البحر الأحمر، بعد أن افتتح ميناءها- استقبله أهل ذمار في مدخل المدينة وهم يهتفون.. «نشتي ميناء ساع المخا.. نشتي ميناء ياسلاَّل» أي نريد ميناء كالمخا- ومدينتهم تقع في عمق جبال اليمن!! فما كان من الرئيس السلال المشهور بالنكتة إلا أن قال لهم ضمن خطابه لهم: «وأما مطلبكم العادل يا أهل ذمار بعمل الميناء فإني أقول لكم:«عليكم البحر وعلى الميناء» وعندما قدم الرئيس صالح استقالته مرة كتب أهل ذمار لافتة جميلة في مدخل المدينة تقول: «نطالب الرئيس بالعدول عن قراره الحكيم»! وعندما ترشح الرئيس صالح ونزل في المقابل «مرَّشح» لاحظ له في الفوز علق أهل ذمار لافتة جميلة تحمل ثلاث صور للرئيس صالح إحداها بالزي البلدي، والأخرى بالبزة العسكرية، والثالثة بالبدلة الإفرنجية، وكتبوا تحت صور الرئيس صالح الثلاث عبارة «اختر الأفضل». هذا هو الشعب اليمني الذي يقفز خلف جسام الحوادث، وعظام المواقف بالطرفة والنكتة، وخلال أحد عشر عاماً، تغير كل شيء في اليمن حتى لغة الخطاب، وإيقاع الحياة والنهضة العمرانية.. هذا التغيير سنتناوله في الحلقة الثالثة والأخيرة من هذا المسلسل بإذن الله. ونواصل