هذه الدعوة الصالحة وهي جزء من العبارات التي كانت «تساندنا» بها أمهاتنا وحبوباتنا.. الله يعدل طريقك.. ويفتح عليك ويكفيك شر أولاد الحرام وبنات الحرام.. إلخ.. ولابد أن مثل هذه الدعوات تفتح لها أبواب السماء لأنها تصدر من قلوب مؤمنة، ومن أناس لم تلهِهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، يعيشون الكفاف ويحمدون الله ويشكرونه بالقول والفعل، فالحمد إنما يكون باللسان والشكر يكون بالعمل.. اعملوا آل داؤود شكراً وقليل من عبادي الشكور. كانت مدينة بورتسودان في ستينيات القرن الماضي «نموذجاً باهراً» للمدن الساحلية، وهي بالضرورة «كانت» مختلفة عن سائر المدن السودانية، وقد عرفت فيها معنى «البندر» لأول مرة في حياتي، فقد كانت رحلتي الأولى وأنا في «أولى وسطى» من الشمالية إلى بورتسودان.. حيث رأيت «كهارب الميناء» - كهارب جمع كهرباء - مثل «زُلطَّة» جمع زلط والله أعلم.. لذا لزم التنويه.. وكانت بورتسودان كتلة نشاط تجاري واقتصادي ثقافي ورياضي واجتماعي وسياسي و«كل شيء.. كل شيء»، ولن أسهب في وصف المدينة خلال تلك الحقبة الزاهية أو «الزائلة»، لأن سمة الحضارة والمدنية وقتها كانت تخالطها «الدعارة والخمر» والموائد الخضراء والليالي الحمراء والعياذ بالله.. فقد ترك المستعمر «ثقافته» تلك في كل مكان.. ثم تدهورت حال بلادنا عامة.. سنة الله في خلقه.. قال الأستاذ المرحوم محمد أحمد المحجوب وهو يرد على سؤال أحد البرلمانيين عن تردي حال مدينة سواكن، التي تحولت إلى خرائب بعد تحويل الميناء إلى مدينة بورتسودان.. فلم يزد رد رئيس الوزراء الأديب الشاعر المهندس القانوني «المحجوب» على قوله: «أما علمت يا هذا بأن للمدن كما للناس آجال»، فأفحم النائب المحترم لعله «هاشم بامكار» صاحب المُلح والطرائف السياسية الذي وعد ناخبيه بأن «يعمل كبري بين بورتسودانوجدة عشان الحج يكون كداري»، وعندما سئل في ما بعد عن مقومات مثل هذا الوعد قال بامكار: «والله الجو كان كويس والهواء بارد والليلة السياسية كاربة، فأطلقت ذلك الوعد يمكن يجي يوم يعملوا فيه كبري وأكون سبقت الناس بالفكرة».. أو كما قال. والمشاريع الكبيرة تبدأ بالأحلام.. وهكذا دبت الحياة في مدينة سواكن ونهضت من كبوتها على يد الإنقاذ، التي بدأت بميناء عثمان دقنة ثمَّ بشاير ثمَّ عدة موانئ أخرى للمواشي وخلافه وازدهرت الحياة.. ولبست سواكن ثوباً من النماء قشيب.. أما مدينة بورتسودان فقد بلغ بها التردي كل مبلغ وصارت مرتعاً للذباب والناموس يتبادلان ليلها ونهارها، إلى جانب الهوام والقطط والكلاب الضالة.. ولن نذكر الأنعام حتى لا يغضب أهلنا «الكمالاب» الذين يقولون بصراحة مذهلة «كمالاب أقدم من الميناء».. «إذا إنتوا ما عاوزين الجمال شيلوا الميناء من هنا».. حيَّاهم الغمام فهم أصحاب أصالة وبسالة فتحوا صدورهم ودورهم حتى أصبحت بلادهم نموذجاً للتعايش والتمازج والانسجام بين مختلف ألوان الطيف الجهوي والحزبي والعقدي.. وسيسطر تاريخ البحر الأحمر عامة ومدينة بورتسودان خاصة اسم الأستاذ محمد طاهر إيلا والي ولاية البحر بأحرف من نور، وودت لو أنني حظيت بمقابلته في زيارتي الخاطفة لحاضرة البحر الأحمر التي أصبحت في عهده عروس البحر الأحمر.. طرقاً معبدة وقصوراً مشيَّدة ونظافة لافتة وأناقة ظاهرة، لم تكن لتتأتى إلاّ لرجل صاحب قرار وشجاعة ومقدرات خاصة، فكل من سبق إيلا على هذا المنصب لم يجرؤ على اتخاذ قرارات مثل قراراته الجريئة التي أحالت بورتسودان لأجمل مدينة سودانية على الإطلاق.. ولن يتمكن الكاتب مهما أوتي من قوة عارضة ودقة بيان أن ينقل تلك الصورة الجميلة لبورتسودان.. أما الطرق فهي بالقطع أجمل من الطرق في العاصمة القومية.. وعموماً فالمدن الساحلية لها سحرها الخاص. لم يجد الذين لا يعجبهم العجب مدخلاً يغمزون به «إيلا» غير نكتة يتبدى منها الخبث تقول النكتة.. أهدى أحد الكتاب إصدارة له للوالي وعنوانها «الطريق إلى الجنة» فقرأ الوالي العنوان ثم تناول قلمه الأخضر وكتب على الغلاف.. «تَصدق».. الله يعدل طريقك يا إيلا... وهذا هو المفروض.