حسناً فعلت الزميلة «السوداني» بنشرها النص الكامل لمذكرة الوفد الحكومي للتفاوض مع الحركة الشعبية قطاع الشمال، التي رفعتها إلى الآلية الأفريقية رفيعة المستوى برئاسة ثابو مبيكي، فقد وضعتنا «السوداني» بهذا النشر في صورة الكيفية التي يدير بها الوفد الحكومي عملية التفاوض مع «قطاع الشمال»، الذي يدير حرباً ضروساً في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، ويعمل على توسيع أثرها إن لم يكن مداها وعملياتها، من خلال توسيع جبهة المعارضة لحكم المؤتمر الوطني بإنشاء ما يسمى ب«الجبهة الثورية» مع بعض الحركات الدارفورية الرافضة لاتفاقية «الدوحة»، ومن خلال التحالف مع القوى السياسية المعارضة في الخرطوم وأرجاء الوطن كافة. الملاحظة الأولى التي يمكن أن يلمحها أي قاريء بتمعن لمذكرة الوفد الحكومي برئاسة الدكتور كمال عبيد هو «الأفق المسدود» الذي تنطلق منه المذكرة في قراءتها لمواقف الحركة الشعبية «قطاع الشمال»، وهي قراءة تستند أساساً على «محضر اجتماع» لقطاع الشمال تمكن الوفد من الحصول عليه «بوسائله الخاصة»، وإن لم تشر المذكرة إلى مكان الاجتماع، لكنها أوضحت أنه تم في وقت لاحق أعقب جولة المفاوضات السابقة، وحددت تاريخه ب28 أغسطس 2012. هذا الأفق المسدود يتبدى بأوضح ما يكون في خلاصة المذكرة التي تؤكد على جملة من الاستنتاجات تجعل قارئها يرفع سؤالاً منطقياً هو: إذا كان الأمر كذلك وإذا كانت الهوة بهذا الاتساع فلماذا إذن التفاوض أصلاً.. هل هو مجرد استجابة حينية وتكتيكية خالصة لمنطوق القرار الدولي رقم (2046) الذي يطلب من الحكومة التفاوض مع قطاع الشمال، لوضع حد للحرب في الولايتين استناداً على مباديء اتفاق «نافع- عقار» الذي تم إلغاؤه من جانب حزب المؤتمر الوطني في وقت سابق؟ فخلاصة المذكرة التي سلمها رئيس الوفد الحكومي د. كمال عبيد للجنة الأفريقية رفيعة المستوى تقول فيما تقول: إننا نؤكد للآلية وللوساطة، ولمعرفتنا الدقيقة بالمتمردين، أنهم لا يمتلكون الإرادة ولا الرؤية ولا المنهج الأخلاقي للتفاوض للوصول لحل سلمي نهائي، بالإضافة إلى عدم استطاعة المتمردين التخلص من الأسر والإرتهان للأجندة الخارجية، و«عدم القدرة على فك ارتباطهم السياسي والعسكري بدولة الجنوب». واستمرارهم في استغلال قضية الولايتين كمطية ومعبر لتحقيق أجندة لا علاقة لها بالقضية ولا بأهلها، واستمرارهم في النكوص بالمواثيق والاتفاقيات وتعطيلها بدءاً باتفاق المساعدات الإنسانية، وإنهم يعولون على «التسامح والمرونة المطلقة للآلية والوساطة» لتمكينهم من التسويف وكسب الوقت.. وطالب الوفد الوساطة بأن «تضطلع بدورها في توضيح موقف قوي تجاه هذا المسلك». هذه المطالبة للوساطة تعني باختصار وبكلمات أخرى أن تضطلع الوساطة بدور ضاغط على وفد الحركة الشعبية حتى يتخلى عن أجندته المدانة من قبل الوفد الحكومي، والتي جرى تشخيصها كما وردت في المذكرة. لكن السؤال يبقى: هل الوساطة الأفريقية مؤهلة لممارسة مثل هذا الضغط، وما هي آلياتها لممارسته في سبيل تقريب الشقة، فنحن نعلم أن قرار مجلس الأمن (2046) أسس مطالبته للحكومة وللحركة «قطاع الشمال» للتفاوض بناء على اتفاق «نافع- عقار» ونعلم يقيناً أن ذلك الاتفاق قد تم رفضه في اجتماع شهير للمكتب القيادي للحزب الحاكم نزولاً عند رغبة تيار «الصقور» في الحزب وحوله، الذي يرفض من حيث المبدأ الحوار مع «قطاع الشمال» باعتباره فصيلاً «عميلاً هدفه تقويض السلطة واسقاط النظام، ويخدم أجندة خارجية» وهذا ما أكدته مذكرة وفد عبيد للوساطة، وهذا يؤكد انسداد الأفق بالوصول إلى حل سلمي للأزمة وفق الجدول الزمني الذي حدده قرار مجلس الأمن. المذكرة استندت- كما سبقت الإشارة- على وقائع مُسربة لاجتماع عقده المتمردون في 28 أغسطس الماضي، وكما قال من صاغوها إنها هدفت لتزويد الوسطاء بالمعلومات بغرض مساعدة الآلية . ومن حيث المبدأ لا مانع من استخدام «الوفد» وسائله في الحصول على المعلومات حول الكيفية التي يفكر بها الطرف الآخر، ولكن يبقى أيضاً سؤال: هل كل ما يقال في مثل هذه الاجتماعات- خصوصاً في اجتماع لجماعة متمردة- يعبر بالضرورة أو يشكل منهجاً إذا ما حانت لحظة الجلوس المباشر للتفاوض وجهاً لوجه مع الطرف الحكومي، أو مع الوساطة، أم أن مثل هذه الإجتماعات تشهد- كما هي العادة- مزايدات وتشدد من بعض الأطراف المشاركة في الاجتماع لأسباب ودوافع متنوعة بعضها موضوعي وكثير منها ذاتي؟ هناك بعض التعليقات والملاحظات التي وردت في المذكرة، لن تكون على الأغلب محل ترحيب من الوساطة، لأنها سترى فيها «كيلاً بمكيالين» من ذلك على سبيل المثال نقد المذكرة لما جاء في محضر الاجتماع المذكور من أن «الحركة الشعبية ستطلب من الآلية الرفيعة (السماح لها) باجراء مشاورات مع القوى السياسية والشخصيات الفاعلة المعارضة للنظام في الولايتين، وعلى رأسهم قوى الإجماع الوطني، ولا سيما الأحزاب المعارضة التي شاركت في انتخابات الولايتين.. تعليق المذكرة على ما جاء في محضر الاجتماع هو: أن هذا القرار يؤكد عزلة المتمردين وانقطاع تواصلهم السياسي والاجتماعي مع مجتمع الولايتين، ويريدون من الآلية أن تصبح وسيلة لاستعادة وصلهم بالمجتمع. وعلة «الكيل بمكيالين» التي نتوقع أن تحتج بها الوساطة على مطالبة الوفد الحكومي بعدم (السماح) للحركة بمشاركة أية قوى سياسية أو اجتماعية أخرى في عملية التفاوض، ستنبع من ذهاب الوفد الحكومي إلى التفاوض مصحوباً بعناصر وشخصيات وقوى سياسية تنتمي للمنطقتين، وتساند الموقف الحكومي، تأكيداً- كما قالت المذكرة ذاتها وهي تزكي هؤلاء المنضمين: إن وفد الحكومة وتأكيداً لمبدأ «توسيع المشاركة والمشاورة» لأصحاب المصلحة المباشرة أضاف في هذه الجولة ممثلين للقوى والأحزاب السياسية بالولايتين وفيهم السيد دانيال كودي، وسراج علي حامد، ومُنير شيخ الدين.. وتتساءل المذكرة إذا كان وفد الحكومة ضم اولئك الموقعين على «الميثاق» الذي تم تسليمه للآلية في الجولة السابقة فعن أي أحزاب يتحدث هؤلاء؟ ويعكس ما ذهبت إليه المذكرة برفضها «لتوسيع المشاركة» من قبل الطرف الآخر، فالرأي عندي أن هذا «التوسيع» الذي نادت به كل قوى المعارضة المدنية من أجل لعب دور في إنهاء الحرب في الولايتين وفي دارفور والتأسيس لسلام عادل ومتوافق عليه، سيساعد في نزع عناصر التوتر والاستقطاب ويمنح الثقة للطرفين، وللفصائل المحاربة بشكل خاص، من حيث هو «ضمانة» بأن اتفاق السلام سيرى النور، خصوصاً وقوى المعارضة هذه قد أعلنت منذ البداية رفضها للحرب، ورأت فيها خطراً على استقرار البلاد ووحدتها وسلامة أراضيها، مثلما رأت أنه لا مخرج لأزمات السودان وأدوائه إلا بالتأسيس لتوافق وطني عريض يجمع كل أهل السودان وفق ثوابت الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية والجهوية، وفق دستور دائم يرى فيه كل مواطن وكل اقليم نفسه من حيث الحقوق والواجبات.