في أواخر الثمانينات أيام الديمقراطية الثالثة لا أذكر اليوم والتاريخ. ما أذكره أنني ذهبت لدار نقابة المحامين، واعتقد أنها في منطقة الخرطوم شرق: الموضوع طرح صوت الثقة في نقابة المحامين والتي كان يسيطر عليها اليسار أو قوى الانتفاضة.. كنت ممثلاً لصحيفة الأسبوع وهي صحيفة مستقلة وأنا كذلك.. جاء المحامون وهم ينقسمون لمجموعتين، رابطة المحامين الإسلاميين يقودها الأستاذ فتحي خليل المحامي ورابطة المحامين الديمقراطيين يقودها الأستاذ كمال الجزولي. كان معي في ذاك المساء المتأخر من الصحفيين زميل من جريدة الأيام.. خرج الأثنان وذهبنا خلفهما للتصريحات.. سألنا كمال الجزولي عن صحفنا أجبناه واختار لدهشتي صحيفة الأيام!! لم يكن أمامي خيار سوى الاكتفاء بوجهة نظر واحدة فتحي خليل تحدث للصحيفتين.. استغربت من الانتقائية والانطباعية التي تعاملت بها معي «الجزولي» رغم أني لحظتها كنت أقرب للخط المناهض لطرح صوت الثقة في نقابة المحامين باعتبارها من قوى الانتفاضة الحارسة لمكاسب ومبادئ ثورة 6 أبريل! قناعتي التي خرجت بها آنذاك أن ممثل الإسلاميين يعرف كيف يتعامل مع الإعلام وكيف يخدم خطه بكل وضوح وبدون أفكار مسبقة.. وجاءت النتيجة بعد ذلك لصالح نقابة المحامين ونقيبها آنذاك الأستاذ عبد الله الحسن المحامي رحمه الله رحمة واسعة ورحم كذلك الأستاذ فتحي خليل وأمد الله في أيام أستاذنا كمال الجزولي!! أمس في صيوان العزاء سألت نفسي كم هي ظالمة السياسة للإنسان السوداني؟ وكيف أنها تحجب بسحب كثيفة سوداء الكثير من الحقائق والدلالات الخاصة بالشخصية العامة!! الصيوان يمتد ويمتد ويغوص بالبشر من كل السحنات والألوان السياسية المختلفة «الألوان» والمشارب!! الناس يأتون بمحبة ويلبسون «جلابية» «واحدة» من المشاعر و«يلفون» عمة واحدة من الحزن الشفيف «الصادق» ..! السودانيون دائماً «منصفون» وإن جاءت الشهادة متأخرة.. يقولون «يوم شكرك ما إجي» ومع ذلك تحدث كثيرون في صيوان العزاء.. إن يوم شكر فتحي خليل قد جاء أكثر من مرة وسمعه وشاهده بنفسه. أحد المتحدثين قال إن قافلة الإغاثة التي سيرها السودان لغزة كان وراء نجاحها الكبير فتحي خليل وعندما وصلت هناك كان عباس هنية يسأل أين فتحي خليل..؟ حديث الوفد الفلسطيني في الصيوان أمس فيه إشارة واضحة لدور أبناء السودان في نصرة الشعوب المستضعفة رغم أننا من بين هؤلاء المستضعفين!! لا أذكر لقاءات أو معرفة شخصية قريبة بالراحل المرحوم فتحي خليل.. ولكنني سمعت أغلب المتحدثين في الصيوان أمس يتحدثون عن أبرز ثلاث صفات يتميز بها.. طهارة اليد واللسان والقلب.. وهل هناك «أجمل» و «أنقى» من كل ذلك..!! ما «أتفه» السياسة وهي تبعثر كل هذه المآثر العظيمة للشخصية السودانية في بحرها المتلاطم و«الهائج» الأمواج، ما أحوجنا لعبر الحياة والموت وهذه الدنيا الزائلة والتي لا ينفع معها سوى العمل الصالح والمحبة للإنسانية وخدمتها بلا حدود.