أشعر أن مصابيح المساء تشهق من الكسل تتثاءب ترتمي على مجرى الريح ، وحدي كنت أسامر الصمت أبحث عنك أترقب حضورك البهي ، أذكر في ذلك المساء الموغل في القدم جاءني صوتك مترعا برائحة المطر ، تحدثنا طويلا شعرت بأنفاسك في الهاتف ، الله يا تمرة القلب ، كان الواحد منا قبل أن يشد خيل الإرتحال يردد في نفسه سنة وسنتين ونعود للوطن ، مئات الألوف غرقوا في بحار الغربة أدمنوا هذا الخدر اللذيذ ، خدر يستفيق منه الإنسان على صوت الواقع حينما يجد أن العمر ذهب مع الريح ، أضحك حينما أتذكر حكايتي مع الغربة البطالة ، الكثيرون إغتربوا وهم آخر شباب ونضارة وعادوا في نهاية المطاف وهم يحملون في أجسادهم قائمة طويلة من الأمراض والأوجاع وفي القلب حسرة على ضياع السنين ، بعضهم قضى نحبه في الغربة ، وآخرون يعيشون على كتف الصمت ولم يحصدوا غير السراب ، صاحبي وزميل مهنة المتاعب طاف العالم شرق وغربا وأخيرا انتهى به المطاف صحافيا في مطبوعة خليجية واسعة الإنتشار ،عرفته رجلا صامتا ومنزويا ، لا يعرف الاجتماعيات ، في ذلك الصباح المسكون برائحة الرطوبة وهدير أجهزة التكييف جلس بجواري قال انه ظل لعدة أشهر يردد مع سيد الغناء السوداني مصطفى سيد أحمد ( الغربه مره ومؤلمه ) وانه منذ أكثر من شهر لم يعرف طعم النوم المريح ، الرجل قال إنه فكر في قطع حبال الوصل مع الغربة فحسب قوله إنه لا يريد أن يقرأ الناس في الغد خبره ( أن الفقيد دفن في مقابر المعلاة ) ، قال إنه يريد أن يسافر إلى السودان عاجلا ولن يعمل في مهنة المتاعب مرة أخرى ، يريد أن يعيش في مدينته القريبة من الخرطوم يزرع ويحصد كما فعل مصطفى سعيد في رواية ( موسم الهجرة إلى الشمال ) للراحل الطيب صالح بعد لقائي بصاحبي الذي قطع علاقته مع الغربة كنت في سيارتي استرجع سنوات الاغتراب ، فتحت مسجل العربية ، المصادفة العجيبة والغريبة كان صوت مغني الهوارة اللبناني فارس كرم وهو يردد أغنية تجلب البكاء من اقاصى ، نعم والله تجلب البكاء من اقاصي الذاكرة ،أغنية مطلعها ( الله يلعن بي الغربة ) ،بالمفتشر يعني الله يلعن أبو الغربه ، أغنية في كل بيت منها حكمة عن المغترب الذي يقول في نفسه أنه سوف يغترب لسنوات بسيطة ولكن يجرفه التيار ويصبح مدمنا للغربة أغنية تجعل أجعص جعيص يبكي ، الأغنية اللبنانية تقول فيما معناها إننا فارقنا بلادنا ونحن صغار وعدنا ونحن نحمل الهموم ولم نجد جميع اللذين تركناهم في الوطن ، آآآه الباقي هداهو السفر .