في كل عواصم العالم تعتبر النظافة شيئاً أساسياً، لذلك فإن أول ما يلفت النظر في تلك المدن هو نظافتها، فمازلت أذكر ونحن نشارك في مؤتمر الشباب والطلاب في سنوات مضت ببلغاريا.. أن العاصمة صوفيا يتم غسلها يومياً عند منتصف الليل.. تتوقف الحركة وتفتح مضخات كبيرة في كل أرجاء العاصمة ليتم غسلها، وبعد فترة قليلة تختفي المياه في مصافي كبيرة معدة في كل الشوارع، ثم يتم تجفيف العاصمة بضاغطات هواء ساخن لتعود الحركة كالمعتاد بعد حوالي ساعة أو ساعتين في شوارع نظيفة منشفة.. أما ما شاهدته في الدنمارك في العاصمة كوبنهاجن فهو يختلف، هناك العاصمة بنظافتها لا تحتاج إلى غسيل فهي نظيفة لامعة، لكن هناك متابعة كي لا تسقط ورقة واحدة على الأرض.. فكل الأوساخ والمخلفات توضع في السلات الكبيرة المعلقة بكل الشوارع، وأكاد أجزم أنه لو نظمت مسابقة لإحضار ما يملأ اليد من التراب في كل أنحاء العاصمة لما فاز أحد.. وفي لندن كذلك شاهدنا وضعاً أقل نظافة لكنه نسبياً لبقية العواصم الأوروبية، ومع ذلك فهي تعتبر نظيفة نظافة كافية.. هذه أمثلة أردت أن أقدم بها وأنا أتناول موضوع النظافة في العاصمة السودانية الخرطوم. لقد تابعنا منذ عشرات السنين المراحل التي كانت تتم بها النظافة منذ أن كانت فردية بمساعدة عمال النظافة من البلديات، وهم يحملون القفاف والكارديف لوضع الأوساخ في تجمعات صغيرة وحرقها.. ثم تطور الأمر إلى جمع تلك النفايات في كوش كبيرة، ثم يجري حرقها، وتطور إلى مرحلة أخرى بأن أصبحت تلك الكوش ترحل إلى مناطق بعيدة ويتم حرقها بعيداً عن السكن، وكانت ترحل بترلات تجرها التراكتورات.. وفي فترة ليست ببعيدة تطورالأمر إلى إنشاء هيئة للنظافة على مستوى الولاية، وقد أوكل للأخ الضابط الإداري فتح الرحمن قيادتها واستوردت لها عدد من العربات.. وقد كان إنشاء هيئة النظافة تلك خطوة كبيرة في طريق تطوير أعمال النظافة.. ولكن سرعان ما نشأت نزاعات بين الولاية والمحليات باعتبار أن أعمال النظافة من اختصاص المحليات- حسب القانون- وبعد أخذ ورد في عهد الوالي المتعافي أوكلت أعمال النظافة للمحليات وجمدت هيئة نظافة الولاية.. وبعد أن جاء عائد التجربة غير مرضٍ، أعادت الولاية تدخلها بالتنسيق مع المحليات فأنشأت هيئة اشرافية على المستوى الولائي، على أن تتولى المحليات أعمال النظافة المباشرة عن طريق وحدات للنظافة على المستوى المحلي، وقد استوردت الولاية ما يزيد على المائة آلية للنظافة في العام الماضي، تم توزيعها على المحليات، وتم التوجيه بأن يشرف ضباط الصحة على أعمال النظافة بالمحليات بصفة مباشرة، ولكن مع كل ذلك ظلت النظافة بالخرطوم دون المستوى، ولم تنل رضى السكان، حيث أصبحت العربات لا تلتزم بالمرور على الشوارع والمنازل حسب الجداول الموضوعة بحجة الإعطال وقلة العدد. لقد عرفت أن الولاية تنوي استيراد المزيد من آليات النظافة لدعم الأساطيل العاملة لتغطية كل أنحاء العاصمة المترامية، وربما يعتبر امتداد العاصمة الأفقي عاملاً من عوامل نجاح مشاريع النظافة- فكل المدن الأوروبية التي تحدثنا عنها ترتفع رأسياً مع محدودية مساحتها الأرضية، مما يسهل مشاريع النظافة فيها ومتابعتها. لقد علمت أن تطوراً لأعمال عربات النظافة قد بدأ العمل به.. فبدلاً من إخراج النفايات ووضعها بالشوارع وأمام المنازل.. سوف تبقى تلك النفايات بالداخل وتخرج فقط عند مرور العربات تفادياً لما يتم من بعثرة ونكت وإزالة للمشهد الذي نشاهده الآن، إننا لا نطمع بأن تكون العاصمة خالية من التراب نهائياً، ولا من النفايات بتاتاً، لكن نطمع بأن تصبح العاصمة نظيفة خاصة أن هناك حملة استثنائية بدأت الشهر الماضي لاصحاح البيئة عموماً، وتنتهي في نهاية هذا الشهر وهي تشمل النظافة العامة، وإزالة الأتربة، ونظافة المجاري والكسورات، والرش للحد من الذباب والبعوض، وقد صحبت هذه الحملة جهود من مختلف الجهات، وتشغيل لعدد من الآليات مع توزيع مجاني لآليات النفايات تم تصنيعها بمواصفات مدروسة.. نأمل أن نكتب في المرة القادمة عن عاصمة نظيفة خالية من كل الشوائب.