تعودنا ونحن مجموعة من الأصدقاء أن نلتقي بعد صلاة التراويح في شهر رمضان في شارع النيل، حيث نقوم برياضة المشي لمدة ساعة، بعد ذلك نأخذ راحة على ضفاف النيل، نجلس في ضيافة السيدة عائشة ست الشاي التي تأتي بمجموعة من الكراسي والترابيز الصغيرة، ومعها ابنها وبنتها الصغيرة يساعدانها في خدمة زبائنها الذين يفوق عددهم الخمسين، وقد تعودوا ونحن معهم أن نجلس لساعة أو ساعتين نتناول الشاي والقهوة، ولقد أزداد حضورنا عندما تعرفنا عن كثب على الظروف الأسرية الصعبة التي تعيشها هذه السيدة، التي فقدت عائل أسرتها، وأصبحت مسؤولة عن تربية مجموعة من الأطفال، أكبرهم لم يتجاوز عمره إثني عشر عاماً، وعائشة حالة من عشرات السيدات يفترشن الأرض يقدمن الشاي والقهوة لجموع المواطنين، الذين تعودوا على قضاء أمسيات رمضان على شارع النيل في الخرطوم، وأم درمان، والخرطوم بحري هكذا الحال في رمضان منذ عدة سنوات، وظلت أعداد المواطنين والأسر تزداد يوماً بعد يوم حتى أثناء الأيام العادية، والتحسين والإنارة التي قامت بها الولاية في شواطيء النيل هي التي جذبت المواطن إلى هذا المرفق الحيوي ولعل أول أهداف هذا العمل الكبير قد تحقق، من أجل رفاهية مواطن العاصمة المكتظة، والذي يبحث عن ملاذ صحي وآمن يقضي فيه وقت الفراغ، وهؤلاء النسوة ستات الشاي أوجد لهم هذا الوضع مهنة شريفة، يتكسبون منها ما يساعدهن في تكوين أسرة صالحة -هذا الوضع الطبيعي موجود في معظم دول العالم، وأنه لمنظر مفرح وحضاري أن نرى الألاف من مواطني العاصمة من كل الأعمار وكل الطبقات، رجال ونساء وأسر بأكملها، نراهم يتجولون على ضفاف النيل السعيد، ولكن لا بد أن يكون لهم مطرح يجلسون عليه، حيث قامت بائعات الشاي بتوفير كراسي لجلوس هؤلاء المواطنين وتقديم الضيافة لهم -هذا الاستفتاء الشعبي لرضاء المواطنين وفرحتهم بإنجاز الولاية في توفير هذا المناخ لهم- هذا لم يرض بعض المسؤولين في الولاية، فجاءت فجأة كشة عنيفة قوامها مجموعة من الدفارات وعربات الشرطة، وفي حملة عنيفة قام الجنود بجمع كل الكراسي والترابيز التي يجلس عليها الناس، ومعدات صنع الشاي، وتوابعها من شاي، وبن، وسكر، وساد هرج ومرج في المكان، وما هي إلا لحظات حتى انصرف مئات المواطنين وهم ساخطون، يلعنون الذي كان السبب في حرمانهم من أبسط حقوقهم في التمتع بنعمة النيل، وانقلب الفرح إلى غضب. أما السيدات المغلوبات على أمرهن، فقد حرمن من الرزق الحلال، ورأيتهن يرفعن أيديهن إلى السماء، يشتكين للمولى جلت قدرته ظلم ذوي القربى، وما اقسى دعوة المظلوم في هذا الشهر المبارك. أيها السيد الوالي إنني أعتقد أن توافد المواطنين بصورة تلقائية على ضفاف النيل هو تقليد حضاري، ومتنفس ضروري لهذه العاصمة المكتظة بالسكان، وحري بالمسؤولين في ولايتك أن يحتفلوا ويفرحوا بهذا التقليد، أما بائعات الشاي فإن وجودهن وضع طبيعي فرض نفسه لسد حاجة هذه الحشود الكبيرة من المواطنين الذين من حقهم أن يجدوا ما يسد رمقهم، وإن كانت هناك ممارسات خاطئة، مثل تدخين الشيشة، فهنا يمكن التدخل لتطبيق القانون، لكن وأنا شاهد عيان ومعي عشرات آخرين لم تكن هناك شيشة، حيث جاءت الكشة العنيفة. دعونا جميعاً أن ننمي مثل هذه الظواهر الشعبية، ونعتبرها سلوكاً تلقائياً ديموقراطياً يعبر عن رغبة؛ المواطن في الولاية جدير بالتطور وتقديم كل ما يشجع على ترقيته، حتى تصبح عندنا ثقافة للترويح عن النفس واستغلال مواردنا السياحية والترفيهية -أما إن كان المقصود بائعات الشاي فلماذا لا نوفق وضعهن ونحن نعلم سلفاً بهذا الوضع، في كل شهر رمضان، بل حتى في أيام السنة العادية، فلا يعقل أن تنفق الولاية المليارات في تهيئة هذا المناخ الرائع على شواطيء النيل، ولا توفر ابسط الخدمات للمواطن، وعندما يتحرك المجتمع من تلقاء نفسه، ممثلاً في هؤلاء النسوة الفقيرات ويقمن بسد النقص بصورة معقولة -حينها يطردن وتصادر كل ممتلكاتهن، ويحرم ألاف المواطنين من تقديم الخدمات لهم، حتى أمكنة الجلوس على ضفاف النيل! لقد تفاكرنا في الأمر مع مجموعة كبيرة من المداومين على ممارسة الرياضة في شارع النيل، وقلبنا الموضوع من كل جوانبه القانونية، والاجتماعية، والانسانية، وخلصنا إلى أن تطبيق القانون إن كان هناك ما يستدعي، يمكن أن يتم بصورة مختلفة، تراعي الظروف الإنسانية، إن كان هناك ثمة مخالفين، وتراعي مشاعر تلك الجموع الكبيرة من المواطنين الأبرياء، وحقيقة لم نجد أي تفسير، غير أن ما حدث يصب فيما درجت عليه كثير من مؤسسات الدولة في استعداء المواطن للسلطة بتصرفات واجراءات مماثلة، بدلاً من استمالته ومعاملته بالحسنى باسم السلطة، مع عدم التفريط في القانون واللوائح، إنها ثقافة هامة بين الحاكم والمحكوم، نرجوا أن تعمل السلطة العليا للولاية على نشرهذه الثقافة في اوساط المتنفذين والعاملين فيها. والله ولي التوفيق رئيس جمعية حماية المستهلك