الدستور الحالي دستور جمهورية السودان الإنتقالي لسنة 2005م، هو الدستور السابع في تاريخ البلاد، إذ سبقته ستة دساتير هي على الترتيب، دستور الحكم الذاتي لعام 1953م، ثم دستور السودان المؤقت لعام 1956م، ودستور السودان المؤقت لعام 1964م، فالدستور الدائم لجمهورية السودان لعام 1973م، فدستور السودان الإنتقالي لعام 1985م، وأخيراً دستور جمهورية السودان لعام 1998م. ü دستور 1953م يعتبر أول دستور متكامل في تاريخ السودان، وهذا الذي يميزه عن وثيقتين دستوريتين سبقتاه، هما إتفاقية الحكم الثنائي لعام 1899م، التي أبرمت بين دولتي الحكم الثنائي مصر وبريطانيا لتنظيم حكم البلاد بعد الفتح، وقانون المجلس التنفيذي والجمعية التشريعية لعام 1948م، وهو قانون أساسي وضع اللبنة الأولى للنظام البرلماني في السودان، عندما نص على قيام جهاز تنفيذي وآخر تشريعي منتخب جزئياً، بغرض تدريب السودانيين على حكم أنفسهم. ü أمّا دستور 1956م، فهو دستور الاستقلال الذي صدر في ظل دولة مستقلة ذات سيادة، على النقيض من دستور 1953م الذي سن في ظل الحكم الثنائي الاستعماري. ü والمتمعن في أحكام دستور المستعمر ودستور العهد الوطني لا يجد إلا فروقاً قليلة وتبايناً غير ذي بال، ذلك لأن ضيق الوقت، والحرص على إستكمال مظاهر السيادة الوطنية عبر إصدار دستور وطني قبل الأول من يناير 1956م معياد اعلان الاستقلال، اضطر القوى السياسية إلى تبني ذات دستور 1953م بعد إجراء تعديلات طفيفة، تلائم طبيعة الدولة الوليدة، الحرة المستقلة، كاستبدال الحاكم العام بمجلس للسيادة، والإشارة إلى طبيعة الدولة السودانية كمجهورية ديمقراطية ذات سيادة، وارجيء النظر في أمر إعداد دستور بديل إلى جمعية تأسيسية يجرى انتخابها خصيصاً لذلك الغرض لاحقاً، وإلى أن يتم ذلك يظل دستور 1956م دستوراً مؤقتاً. ولقد كان من المؤمل الا تزيد فترة سريانه عن شهور أو سنوات قليلة، بيد أن التطورات السياسية، وبطء عمل اللجان القومية التي أوكل اليها تجهيز دستور دائم، علاوة على إنقلاب الفريق إبراهيم عبود عام 1958م، كل ذلك أدى إلى أن يستمر العمل بدستور 1956م (في الحقيقة دستور 1953م) لسنوات طوال، امتدت حتى عام 1973م، عندما تمكن النظام المايوي من إجازة دستور السودان لعام 1973م، والذي جاء مختلفاً جذرياً عن الدساتير التي سبقته، إذ تبنى النظام الرئاسي بدلاً عن البرلماني، واختار الخط الاشتراكي كنهج سياسي واقتصادي، واجتماعي، وفضل صيغة الحزب الواحد القائم على فلسفة تحالف قوى الشعب العاملة، عوضاً عن صيغة التعددية الحزبية الليرالبية، والسمة البارزة في الدستور المايوي هي تأثره بالتجربة المصرية والعربية عموماً، حتى في إطار المصطلحات والمسميات، فأطلق على السلطة التشريعية اسم «مجلس الشعب» بدلاً عن المصطلح البريطاني «البرلمان»، وعلى الحزب الحاكم «الاتحاد الاشتراكي السوداني» تماماً مثل «الاتحاد الاشتراكي العربي» في مصر، واستعار كثيراً من المفاهيم والمباديء الواردة في دستور جمهورية مصر العربية لعام 1971م. ü وبإستثناء دستور 1973م، يمكن القول بأن جميع الدساتير السودانية السابقة لعهد الانقاذ الوطني وتحديداً «دستور 1956، ودستور 1964، ودستور 1985» كلها كانت نسخاً كربونية من دستور الحكم الذاتي لعام 1953م، المؤسس على نظام وستمنستر البريطاني، بملامحه البارزة والمعروفة، وهي تبني النظام البرلماني، والاقتصاد الحر، والتعددية الحزبية، والنهج الديمقراطي. ü صحيح أن دستوري 1964، و 1985، قد حملتا- كل على حدة- بعض التعديلات والإختلافات اليسيرة مثل إلغاء الثنائية التشريعية Bicameral، باعتماد هيئة تشريعية من مجلس واحد «الجمعية التأسيسية» بدلاً عن مجلسين أحدهما للنواب وآخر للشيوخ، أو انتخاب رئيس دائم لمجلس السيادة أو مجلس رأس الدولة، على النقيض مما كان سائداً في دستور 1956، بجعل رئاسة المجلس دورية وبالتناوب بين أعضائه الخمسة، وفي ما عدا ذلك بقى الإطار العام لدستور الحكم الذاتي لعام 1953م، الذي أعدته لجنة القاضي البريطاني إستانلي بيكر بمساعدة بروفيسور هارلو، هو الأساس المتين لدساتير السودان المتعاقبة خلال عهود الحكم المدني والتعددية الحزبية. ü وعندما جاءت ثورة الانقاذ الوطني عام 1989م، بدأت في مستهل عهدها بإدارة البلاد عبر مراسيم دستورية بلغت في الفترة من 1989 إلى 1997، أربعة عشر مرسوماً، كل مرسوم منها عنى بتنظيم مسألة بعينها أو إرساء مباديء سياسية ودستورية في مجال محدد، فالمراسيم من الأول إلى الثالث ركزت على تأسيس المشروعية الثورية عبر الغاء مؤسسات الحكم التي كانت قائمة، وإحلال أجهزة عسكرية وانتقالية محلها، والمرسوم الرابع والعاشر أرسيا ووطدا دعائم النظام الاتحادي، والمرسوم الخامس انشأ أول برلمانات الانقاذ وهو المجلس الوطني الانتقالي، أما المراسيم السابع والثامن والتاسع، فقد عنيت بمؤسسة الرئاسة وبالتدابير الانتقالية، ثم تبعتها المراسيم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، لوضع اللمسات الأخيرة لجهاز الحكم في البلاد على المستوى الاتحادي والولائي، وأخيراً ختمت المراسيم الدستورية بالمرسوم الرابع عشر، الذي قنن اتفاقية الخرطوم للسلام عام 1997م، بين الحكومة والفصائل المنشقة عن الحركة الشعبية لتحرير السودان. في الحلقات القادمة نواصل بمشيئة الله الحديث عن مسيرة البلاد الدستورية