أهداني صديقي الشاعر والباحث والناشط السياسي السوري د. محيي الدين اللاذقاني كتابه «آباء الحداثة العربية» الذي يصف فيه مصطلح الحداثة بسوء السمعة.. ويذهب إلى أنه لا يوجد ما هو أكثر صعوبة في الفكر والفن من عملية إعادة الاعتبار لمصطلح سييء السمعة.. إذ مهما حاول المبدعون والنقاد العرب أن يرفعوا من شأن حداثتنا المعاصرة.. فإنهم سيظلون يعترفون ضمناً في دوائرهم المغلقة بأن تلك الحداثة لم تزدهر بالشكل الصحيح والمفترض لأنها غُرست قصداً أو عن سوء تقدير خارج تربتها الجمالية.. واعتنت بالمستورد والمنقول والمترجم أكثر من عنايتها بالأغصان النابتة من جذور تراثية لا تقل حداثة عن المعاصر.. فالذين نظروا إلى أبي نواس على أنه بودلير العرب.. وإلى أبي تمام باعتباره مالارميه كانوا يؤسسون من حيث لا يحتسبون لاتباعية جديدة لثقافة أخرى وليس لحداثة تنبثق من جذرها التراثي وتتسامق في فضائها الطبيعي ومحيطها الفني الذي يقبل كما قبل في مراحل عديدة من عمر الثقافة العربية وآدابها الناضجة.. فكرة التلاقح والتبادل بين الثقافات الإنسانية بشرط ألا تتخلى أية ثقافة عن بصماتها وحضورها ومكوناتها الوراثية التي تشكلت عبر العصور لتحافظ على ملامحها. من سوء حظ الحداثة العربية المعاصرة بجيلها التأسيسي والتأهيلي معاً.. أنها دخلت في متاهات الحداثة الزمنية وأهملت حداثة النص الذي يتجاوز بقدرته على الإشعاع جميع شروط الزمان والمكان. ومن هذا المنطلق يشير اللاذقاني إلى العصور الزاهية للثقافة العربية.. وفي تلك عثر على عمرو بن بحر الجاحظ وعلى الحسين بن منصور الحلاج وأبي حيان التوحيدي بوصفهم كتاب نص نير ونضر حمل رغم إيغاله في القدم معظم مقومات الحداثة واخترق حجاب السنين. رغم قلة الدراسات عن التصوف السياسي.. فإن دراسة اللاذقاني خلّصت الحلاج من المتصوفة لتضعه في مكانه الطبيعي بين المتمردين والانقلابيين كأحد قادة القرامطة السريين كما رصدت من خلال تجربة التوحيدي الموزّعة بين التمرد والاستسلام.. العلاقة الملتبسة والمشحونة بالتوتر بين منطق السلطة الاستبدادية وهواجس المثقفين الحالمين، أما الجاحظ فقد تم تقديمه في إطاره الموسوعي من خلال مرايا الأدباء والنساء والسياسيين.. وهؤلاء هم الآباء الأوائل للحداثة العربية التي تحولت إلى مصطلح سييء السمعة نتيجة لعجز دعاتها المعاصرين الذين ربطوها بالثقافة الغربية بدلاً عن تقديمها في سياقاتها الطبيعية داخل رحمها التراثي الذي لا تقل نصوصه حداثة ونضارة عن أقوى المنجزات الإبداعية المعاصرة.