بلينكن عن التدقيق في مزاعم انتهاك إسرائيل لحقوق الإنسان: سترون النتائج قريبا    عام على الحرب فى السودان.. لا غالب ولا مغلوب    يمضي بخطوات واثقة في البناء..كواسي أبياه يعمل بإجتهاد لبناء منتخبين على مستوى عال    اللواء 43مشاة باروما يكرم المتفوقين بشهادة الاساس بالمحلية    السيارات الكهربائية.. والتنافس القادم!    واشنطن توافق على سحب قواتها من النيجر    الخطوة التالية    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    سوق الابيض يصدر اكثر من عشرين الف طنا من المحاصيل    الأكاديمية خطوة في الطريق الصحيح    شاهد بالصورة.. المذيعة السودانية الحسناء فاطمة كباشي تلفت أنظار المتابعين وتخطف الأضواء بإطلالة مثيرة ب"البنطلون" المحذق    شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالصورة.. زواج الفنانة الشهيرة مروة الدولية من ضابط شاب يقيم بالقاهرة يشعل مواقع التواصل السودانية    القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح: بدأت قواتكم المشتركة الباسلة لحركات الكفاح المسلح بجانب القوات المسلحة معركة حاسمة لتحرير مصفاة الجيلي    مصطفى بكري يكشف مفاجآت التعديل الوزاري الجديد 2024.. هؤلاء مرشحون للرحيل!    شاهد مجندات بالحركات المسلحة الداعمة للجيش في الخطوط الأمامية للدفاع عن مدينة الفاشر    إجتماع مهم للإتحاد السوداني مع الكاف بخصوص إيقاف الرخص الإفريقية للمدربين السودانيين    وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك        غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أطفال الحداثة وعجزة الأنسنة
نشر في حريات يوم 21 - 10 - 2010


علي حرب :
ما تشهده المجتمعات المعاصرة من التحولات الهائلة والتحديات الكبيرة، يحمل على تغيير نمط التفكير وسياسته وعدته.
فلا يُعقل ولا يُجدي أو يُغني أن يتغير مشهد العالم وخريطته دون ان تتغير جغرافية العقل وشبكات الفهم أو صيَغ العقلنة وقواعد المداولة. من هنا الحاجة إلى تفكيك الترسانة الفكرية القديمة أو السائدة، المستهلكة أو الصدئة، من أجل تجديد أشكال المصداقية المعرفية والخُلُقية والسياسية على نحوٍ يؤدي إلى تغذية العناوين الوجودية أو تحويل الأدوات المفهومية. وأول ما ينبغي تغييره لإعادة بنائه وتركيبه هو عنوان الحداثة ومفهومها (…)
والملاحظ ان الحداثة، كصيغة للوجود أو شكل للوعي أو رؤية للعالم أو موقف من الحاضر أو نمط في الإنتاج والاتصال والتبادل، ما زالت موضع شك من جانب بعض العرب، ليس لأن قضية الحداثة هي إشكالية بذاتها، أو لأن مفهومها ملتبس، بل لأن هناك من يشك أصلاً بوجودها، كما يفعل الذين ينفون على العالم العربي حداثته، أو ينكرون دخوله في فضاء الحداثة.
ولكن طرح المسألة على هذا النحو هو تمويه للمشكلة بقدر ما هو طمس للواقع الحيّ والعالم المعاش. ذلك ان العالم العربي منخرط أصلاً في الأزمنة الحديثة، منذ حملة نابليون، وربما قبل ذلك، أي منذ دخول المطبعة إلى جبل لبنان، هذا إذا أردنا ان نلتفت إلى جانب الاختراعات التقنية في منشأ الحداثة.
أياً يكن، فكيفما تلفّت المرء وتأمل، وكيفما نظر وأمعن، يقف على مظاهر أو بُنى حديثة: الأدوات والتجهيزات، الصحف والشاشات، الأبراج والناطحات، الرموز والشارات، النظم والقوانين، الأزياء والألقاب، الألعاب ووسائل اللهو، أنماط الإنتاج ومنظومات التواصل، شكل الوعي ونمط التصرف (المرأة السافرة الخارجة إلى العمل)، الثقافة الحديثة بخطاباتها ومجالاتها. حتى الأفكار والأسلحة التي يدافع بها العرب عن هوياتهم وأرضهم هي حديثة. بل هناك من تعدّى الحداثة إلى ما بعدها بفكره وتجاربه وآفاقه، وربما تخطى ذلك إلى ما فوقها، كما يشهد على ذلك المنخرطون في مجتمع المعلومة والصورة والشبكة.
ولذا أنا لست مع القائلين بأن العرب لم يدخلوا الحداثة بعد، أو أنه لا حداثة عندنا، ولا مع القائلين بأنه لا يمكن أن ننتقل إلى مجتمع ما بعد الحداثة قبل أن نستكمل حداثتنا. فماليزيا تنخرط اليوم في موجة الحداثة الفائقة من دون المرور بالحداثة التقليدية وثوراتها الفكرية أو السياسية أو الصناعية.
ربما يكون دعاة الحداثة من المفكرين والمنظّرين للمشاريع الحضارية، المتعثّرة أو الفاشلة، هم أقل الناس حداثة، وذلك بقدر ما يتعاملون مع الحداثة كتهويمات تنويرية أو مقررات عقلانية أو مسبقات نظرية أو نماذج جاهزة وناجزة.
ولعلّ الحداثة تشبه من هذه الجهة قضية الوحدة العربية. فكما أن هذه دمّرها دعاتها والمتعصبون لها، فيما يسهم في صنعها من لا يدعو لها، من المنتجين للكتاب والفيلم والمسلسل والأغنية والمعلومة أو الصورة أو السلعة، كذلك الحداثة، قد أخفق فيها دعاتها والذين تعبّدوا لها كديانة جديدة، فيما يسهم في صنعها كل من ينجح في تيسير أو توسيع وتطوير مجالات الحياة وسبلها.
ومثالي على ذلك القناة الفضائية (L.B.C.). فهي تقدم في بعض برامجها، مثل ستار أكاديمي، نموذجاً ناجحاً لعمل عربي مشترك، أي تسهم في توحيد ما خرّبته الأحزاب القومية والعروبية؛ كما تسهم في صناعة حداثة عربية، بالانخراط في موجات الحداثة الجديدة كما يُجسدها الإنسان الرقمي والعامل الميديائي والواقع الافتراضي أو تلفزيون الواقع كما تشهد وقائعه وبرامجه وفنه المتعدد. وليسمح لي الذين يطلون عبر الصحف أو الشاشات ليقولوا لنا لا حداثة عندنا، بأنهم يشهدون على جهلهم بالحداثة التي تشكّلت منذ البداية كعلاقة نقدية بالذات والفكر والعقل، بقدر ما يتعلقون بحداثة يستحيل إحياؤها أو استعادتها، إذ لا شيء يعود كما كان عليه من غير صرف أو تغيير، سواء على أرضه أو خارج بيئته. وهذا مثال على الداء النرجسي الذي يجعل المثقفين والدعاة يمارسون الوصاية على القيَم والحريات فيما هم أقل الناس تجسيداً لها.
وهكذا فالحداثة تخترق، عربياً، الحياة والمجتمع والثقافة، سواء من حيث علاقتها المركبة والملتبسة بما قبلها، وكما يتجسد ذلك في الصراع بين الحداثيين والتراثيين؛ أو بما بعدها، وكما يتجسد ذلك في المواجهة بين مديح العقل ونقد العقل أو بين نقد العقل ونقد النقد. ولذا لا احد يعرى من حداثته. حتى ابن لادن هو حديث بأدواته ومشكلاته، وإن كان قديماً بمفاهيمه ونماذجه. وبالعكس. فداعية الحداثة، قد يكون تقليدياً بقدر ما يتعلق بالحداثة تعلق التراثي أو اللاهوتي بأصوله وأقانيمه. والحصيلة هي العودة إلى الوراء لأن الحداثة كما تشهد صيَغها وموجاتها المختلفة والمتلاحقة، لا تقف وراء السّاعي نحوها، أي ليست هي ما سبق الغير إلى تحقيقه أو ما سبق ان حقّقه المرء بنفسه، وإنما هي ما لم نكنه بعد، أي القدرة المتواصلة على تحقيق السّبق والتقدّم، بالإبداع والاختراع والإنجاز على نحو غير مسبوق.
سؤال الحقيقة
وإذا كنا ما نزال فعلاً خارج العالم الحديث، كما يقولون، بعد عقود من السعي المتعثّر أو الفاشل، فالأولى بالدعاة مراجعة أفكارهم وأدوارهم، خاصة إذا كانوا يعنون بالحداثة جانبها الفكري.
هذه هي المهمة الآن: الارتداد بالسؤال النقدي على الذات لتحليل العوائق التي أعاقت دعاة الحداثة، من المفكرين، عن توسيع مجالات التفكير وإغماء عالم المعرفة. بتطوير المقولات والعناوين الحديثة المتعلقة بالعقلانية والحرية والتقدم… والنقد يحملنا على التخلّي عن وصايتنا على قيَم الحداثة ومعايير التحديث، لكي ننصت إلى سوانا، ونتداول معهم حول المشكلة، وربما لكي نتعلّم منهم، وأعني بهم بشكل خاص الذين يساهمون في تنمية الحياة وصناعة المستقبل من غير ادعاء تحديثي، على ما يفعل رجل الأعمال ومدير المصرف، أو صاحب الصحيفة والقناة الفضائية، أو مهندس البرامج وباني الأبراج، وكذلك الشاعر الذي ينثر قصيدته أو الروائي الذي يؤلف سرده المُحدث أو الفنان الذي يشكّل لوحته، أو كما يفعل الباحث الذي يشقّ وجهةً في الدرس أو يطوّر أداةً في التحليل، وسواهم من الذين يتعاملون مع مهنهم بصورة مبتكرة، لكي يحققوا السبق والتقدم، عبر الإتيان بما هو جديد أو مستحدث.
من هنا فالمسألة، ليست ما إذا كان العرب في العالم الحديث أم خارجه، بل أين موقعهم على خارطة الحداثة؟ هل هم منتجون وفاعلون، أم ما زالوا مستهلكين، تابعين وغير فاعلين؟
ولسنا بحاجة إلى البرهنة على أنهم لم يستطيعوا حتى الآن، بالرغم من أهمية ما تراكم وأُنجز في مجالات الثقافة كالرواية والشعر والرسم، أن ينجحوا في ما نجحت فيه شعوب أخرى، باجتراح نماذج ناجحة على الصعد الاقتصادية والتنموية باستثناء بعض مدن الخليج التي هي تجارب عالمية، أو عربية بقدر ما هي عالمية. صحيح أن العرب يملكون ما لا تملكه هذه الشعوب من الثروات الهائلة. ولكنهم لا يحسنون استثمار مواردهم تنميةً وثراءً، تماماً كما انهم لا يعرفون كيف يستثمرون تراثهم الهائل في ضوء أسئلة العصر ومشكلاته، بتحويله إلى أفكار خارقة أو إلى عملات حضارية قابلة للتداول. مما يعني في النهاية أنهم لا يحسنون استخدام عقولهم بصورة حيّة وخصبة، أو نامية ومتجددة أو فعالة وراهنة.
ولعل هذا هو مغزى النصيحة التي قدّمها للعرب رئيس وزراء ماليزيا عبد الله بدوي في ملتقى دبي الاستراتيجي الذي عُقد في شهر كانون الأول المنصرم (2004): أن لا يعتمدوا فقط على النفط والموارد المادية، إذ هي لا تكفي بذاتها. الأهم هو كيفية استثمارها والتعاطي معها بصورة خلاقة، من خلال أنظمة المعلومات وأنساق المعرفة أو هياكل التنظيم ونظم الإدارة، فضلاً عن نماذج الثقافة وأنماط التفكير. فلا يكفي الفائض النفطي ما لم يكن ثمّة فيض فكري يتجلّى في القدرة الدائمة على إيجاد المخارج أو خلق النماذج والبدائل. بهذا المعنى كل نموذج هو استثناء، أي يشكل مادة لاختراع نموذج جديد.
ولكن النموذج الحي يتحوّل إلى عائق أو إلى مسخ، عندما تجري استعادته بحرفيّته، أي ما لم يجرِ الاشتغال عليه لتجديده حيث نشأ وتشكّل على سبيل التغذية والتهجين، أو لتفكيكه وإعادة تركيبه في سياقات مختلفة وفضاءات مغايرة. هذا شأن التحديث كتجربة وجودية حية ونابضة أو راهنة. إنه فعل خلق وتحوّل أيّاً كانت صيَغه ونماذجه وموجاته.
وهذا ما لا يتقنه العرب. والمثال نجده لدى دعاة الحداثة بالذات. ذلك ان أكثرهم الحداثيين الذين يتصدرون الواجهة الفكرية، من دعاة ووكلاء، إنما يفكرون بصورة تراجعية مقلوبة، بقدر ما يتعاملون مع الحداثة بصورة تقليدية صنمية، من خلال أطياف وصور ونماذج عن التحديث فات أوانها. على هذا النحو يفكر بعض الذين ينتظرون أن تحدث عندنا ثورات تنويرية وسياسية، على غرار ما حصل في أوروبا في مطلع عصر النهضة، لكي تسطع بعدها شمس الحقيقة والحرية على العالم العربي.
وهؤلاء يتخيلون مصائر المجتمعات العربية بحسب الأوضاع التي كانت عليها المجتمعات الغربية قبل ثلاثة أو أربعة قرون. ولذا فهم لا يرون مستقبلاً للعربي إلا وفقاً لما كان عليه ماضي الأوروبي، كما يحلم أطفال الحداثة وعجزة الانسنة، وكأن شيئاً لم يحدث بعد حداثة لوثر وفولتير أو ديكارت وكنط أو هيغل وماركس… فيما نحن نتخطى حداثة سارتر وراسل نحو طفرات وموجات جديدة من الحداثة، تتغير معها طرق إدارة الأشياء والمصالح والقضايا والهويات والسلطات، بقدر ما تتغير أنماط الحياة وأشكال المعرفة وأنظمة الاتصال وأساليب الخلق والإنتاج..
وللمثال، هذه حال الذين يعودون إلى الشعار بعد رفضه أو استهلاكه، كما هو دأب الرجعيين الجُدد من عرب، وغربيين، أصوليين وحداثيين، من الذين كانوا من قبل ضد الدولة فصاروا اليوم معها ضد العولمة، وكانوا ضد المجتمع المدني فصاروا من أشد المتحمسين له، وكانوا يعتبرون الديموقراطية قناعاً برجوازياً فصاروا يعتبرونها الترياق، وكانوا ضد العقلانية النقدية بصفتها فلسفة رأسمالية فصاروا من دعاتها، وكانوا يعتبرون الدين أفيوناً فصاروا يكتشفون فيه فيتاميناً بعد أن تحوّل إلى داء فتّاك وسلاح قاتل، وكانوا امميين يحاربون النزوع القومي فانقلبوا إلى مناضلين أو مجاهدين محليين يحدثوننا عن الثقافة الوطنية(…)
وهكذا إذا كان ثمة أعطال تحول دون مساعي التحديث، فالذين يُسألون عنها أولا، هم دعاة الحداثة الذين عجزوا عن تحديث الأفكار وتحويل المفاهيم بالعناوين الجديدة والتراكيب المبتكرة والأدوات الفعالة. ومصدر العجز هو التعامل مع الفتوحات والتحولات والمستجدات من الأفكار والأحداث والظاهرات بصورة سلبية أو نمطية أو أحادية أو حتمية.
أحادية النموذج
ولا شيء يشلّ الطاقة ويختم على العقل، ليعرقل مساعي التحديث، أكثر من التعلق بنموذج أوحد بوصفه معياراً للتطور أو التقدم، على ما ترفع الشعارات عندنا من جانب المنظرين الذين يقولون لنا: لا تنمية من غير ديمقراطية، أو الإسلام معادٍ للتحديث، أو لا تحديث من دون المرور بالمراحل التي قطعتها الحداثة الأوروبية، وسوى ذلك من الحتميات المقفلة التي تناقضها الأحداث والتطورات.
فالتجارب الناجحة تكسر النماذج الأحادية وتخالف الوصفات الجاهزة. هذا ما يحصل الآن في الصين التي تحرز تقدماً على صعيد التنمية، مع أن نظامها السياسي يوصف بأنه غير ديمقراطي. وبالعودة إلى المثال الماليزي نجد أن هذا البلد المسلم، قد حقق معجزته التنموية وخرج على قصوره وهامشيته، بخرق الشروط الموضوعية المسبقة ومخالفة النماذج الجاهزة والقوالب الجامدة.
من هنا خشيتي، اليوم، على ماليزيا، اذ هي تستقدم من العالم العربي مفكرين، لكي يساهموا في التنمية الثقافية وفي صناعة الأفكار، ممن يتعاملون مع الحداثة كمعسكرات إيديولوجية، أو ممن يُعادون الحداثة وما بعدها وما فوقها، أو ممن يقفون موقف السلب من أحداث العالم ومجرياته وفتوحاته وفلسفاته. وهؤلاء هم جزء من الأزمة ومن صنّاعها، في أنماطهم الوجودية وفي سياساتهم الفكرية، أي هم على عكس الساسة الذين يديرون الأمور في ماليزيا.
وتلك هي المفارقة، التي تفسر سر الإخفاق في مكان، والنجاح في مكان آخر، أي الفارق الوجودي بين ما يحدِّث به المفكّر العربي، وبين ما يحدِّث به السياسي الماليزي. انه الفارق بين الشعوذة الفكرية والتفكير الحي، بين الطفولة الحداثية والمعجزة التنموية، بين الحداثة على المقاس والحداثة الخلاقة والخارقة. ولعلّه من حسن حظ بلدان الخليج العربي أن لم يتسلّم إدارتها داعية إسلامي، أو مناضل قومي أو منظّر يساري اشتراكي، أو مثقّف حداثي رجعي بأصنامه النظرية وقوالبه الأيديولوجية.
وهكذا فإن الحداثيين تركوا من الحداثة إرثها النقدي وآفاقها الرحبة ولغاتها المفهومية وموجاتها العارمة وقواها الحيَّة، لكي يتمسكوا بمقولاتها المستنفدة وأساطيرها المؤسسة وموجاتها المنطفئة وشعاراتها الأيديولوجية الآفلة، ولذا لم يستبقوا منها سوى مفردات الداعية والمبشّر أو التعويذة والأيقونة أو الصنّم والهوام أو المتراس والخندق أو الديكور والقناع أو الموضة والدرجة.
والحصيلة لهذا النمط من التفكير حداثة فقيرة أو متخلّفة أو مشوّهة أو عدوانية أو مأزومة، تُعيد إنتاج المآزق بقدر ما تحيل الحياة إلى أفخاخ وحقول ألغام. يتجسّد هذا المأزق في ما تعانيه المجتمعات البشرية، وخاصة العربية، التي تتأرجح اليوم بين براثن الكماشة العقائدية، الأصولية أو العلمانية، القومية أو الدينية، التراثية أو الحداثية، أي بين ديناصورات التراث ومُسوخ الحداثة، بين عبدة الأنبياء القدامى وتأليه الأنبياء الجدد، بين مجانين الله ومجانين المسيح، بين حروب الآلهة وحروب الأوطان، باختصار بين الفيروس الديني القاتل والعلاج الحداثي الفاشل الذي فقد صلاحيته منذ زمن.
ولذا لا يجدي، معرفة أو عملاً، نظراً أو ممارسة، التعاطي مع العالم، بالعدة الفكرية القديمة التي فقدت مصداقيتها على أرضها بالذات. فمفاهيم الحقيقة والعقل والإنسان والحرية والحضارة على ما يتعامل معها الرجعيون الجدد والمحافظون الجدد من المثقفين العرب والغربيين، استُهلِكت وصدِئت، وباتت تترجم على عكس ما يراد منها. وتلك هي المفارقة. فما نحسبه الحل هو المشكلة. لأن الحداثة التي ندعو إليها، خاصة في العالم العربي، باتت خادعة، مضلّلة، إنها حداثة بلغت أزمتها، كما تشهد الطفرات والانفجارات أو الانهيارات والاحباطات على ارض الواقع المعاش. حتى هابرماس تخلى عن خطوط دفاعاته الأيديولوجية عن مشروع التنوير، بكلامه على مجتمع ما بعد العلمانية، مما يعني ارتياد أفق فكري جديد تتشكل معه قناعات تنبني على الأخذ بحدود العقل والدين معاً.
الداء الإنساني
ولا يمكن أن يكون الأمر غير ذلك، بعد هذا السقوط المريع في امتحان الإلهيات والمتعاليات كما تشهد الفظائع والفضائح البشرية، وكما يشهد العجز المتزايد عن القبض والتحكم، مما يعني انهيار احد عناوين الحداثة: سيادة الإنسان على نفسه وعلى الأشياء. أليس هذا هو المآل والمصير بعد عهود من التنوير العقلي والفلسفي الحداثي، تلت دهوراً من التعليم الديني والإرشاد الخلقي؟!
فأين هي الحداثة والتحديث؟ وأين هو الإنسان الذي نتباكى عليه؟ من كان يتخيل من أبناء جيلنا قبل عقود أن يحصل ما يحصل الآن؟ نخب ثقافية حملت شعارات التغيير والتقدم باتت في المؤخرة تخشى المتغيرات، جمهوريات تتحول إلى ملكيات رديئة، مجتمعات عربية تنفجر عنفاً ونزاعات، عودة الدين بأعراضه المقدسة وسياساته الانتقامية الجهنمية؟ ازدهار الأصولية الدينية بأساطيرها المؤسسة وشعوذاتها الأخروية في الولايات المتحدة الدولة الأحدث والأغنى؟ نظام للعيش يولد من المشاكل والمخاطر أكثر مما يولد من الحلول والمخارج، عنف يزداد كماً ونوعاً لكي يحيل نظام الحياة إلى ما يشبه حالة الطوارئ.
من هنا ليست المسألة الآن أن نتشبث كالغرقى في مفردات الحداثة؟ ولا أن نعود القهقرى إلى كهوف الماضي وأكفانه، لكي نمارس تقديس السلف وعبادة النص. ولكن ذلك لا يعني التسبيح بحمد ما بعد الحداثة لقتل الآباء القدامى والمحدثين. فجذر المشكلة وأصل العلة في ممارسات التسبيح والتقديس والتعظيم التي تتحول معها علاقتنا بالحقيقة والحرية والعدالة وسائر القضايا إلى تجارة خاسرة ومشاريع مدمرة واستراتيجيات قاتلة. ثمة حاجة إلى تفكيك نماذجنا الإنسانية والثقافية، القديمة والحديثة، لتركيب صورة جديدة، وسط هذا الانهيار لصور الإنسان وأطيافه اللاهوتية والعلمانية.
وهذا ما يتيحه مفهوم الإنسان الأدنى. انه يحملنا على الاعتراف بدونيّتنا، لكي يفتح الإمكان لقبول بعضنا البعض أو لرعاية الطبيعة وكائناتها بقدر ما يكسر ثنائية الإنسان الأعلى (نتيشه) وموت الإنسان (فوكو). فشعار الإنسان الأعلى يورث المحن الشخصية والمآسي الجماعية، كما تشهد التجارب. وإذا كان شعار موت الإنسان، يعلن عن انهيار مفهوم السيادة، فإن الوجه الآخر لهذا المفهوم طغيان الإنسان الذي يمارس حضوره اليوم على المسرح الكوني، أكثر من أي يوم مضى، قهراً وظلماً واضطهاداً، أو فساداً وإرهابا وخراباً.
من هنا تتعدى المسألة ثنائية أنسنة الإله أو تأليه الإنسان كما يطرحها الفيلسوف لوك فري بصورة تلفيقية، كما تتعدى دعوى استعادة الإنسانية الضائعة، كما يهذي بها حداثيون علمانيون بصورة طفولية ساذجة. فالعودة إلى لغة التأليه هي عودة إلى الأشياء بعد انتهاكها وانفضاحها، أو عودة الشيء بعد استهلاكه أو استنفاده، والمآل المزيد من الهلاك والخراب. وأما استعادة الإنسان لإنسانيته فهي المحال عينه، لأنه لا شيء يعود كما كان عليه، إلا على النحو الأسوأ والأردأ، أي ارتداداً على الأعقاب ومزيداً من التداعي والتردي نحو الهاوية التي أفضت إليها المركزية البشرية (…)
من هنا أيضاً تتخطّى المسألة اليوم الشعارات المتعلقة بحقوق الإنسان، أو حتى بالازدهار الإنساني، كما يطرحها اصلاحيون عرب بعد فوات الأوان، أي بعد أن فقد الشعار الانسانوي الكثير من مصداقيته، في ضوء المخاطر والكوارث التي أسفر عنها التقدم العلمي والازدهار البشري على حساب بقية الكائنات. ولعلّ المطلوب الآن هو على العكس: التمرس بنقد الإنسان للاعتراف بحدوده وواجباته، أي بحقوق الحيوان والبيئة والطبيعة، من أجل توسيع مفهوم المواطنية العالمية بمعناها الإنساني، نحو المواطنية الكوكبية بمعناها الكوني والاشمل، مما يتيح صوغ الشعار القائل: أنسنة أقل، إذا عالم أقل فساداً وخطراً وشراسةً وخراباً.
خلاصة القول: ما ندعو إليه هو ما نشكو منه، وما نحسبه الحل هو المشكل. ولذا فما نحتاج إليه ليس التأله ولا التأنسن ولا الجمع بينهما لمضاعفة آفاتهما ومساوئهما، اذ هما وجهان لعملة بشرية واحدة، من حيث مفاعيلها السلبية والعقيمة أو المدمرة، بعد كل هذا الفساد والاستبداد والإرهاب والتلوث والتبديد أو التهديد لموارد الأرض وكائناتها الحية. ما نحتاج إليه هو على العكس: مجابهة محاولات الانسنة للعالم والطبيعة والأرض، بالتخفيف والنزع أو الصدّ للنرجسية البشرية اللاهوتية أو الناسوتية. بحيث ننخرط في صناعة إنسانية جديدة بملهماتها وصورها وقيَمها، تنفتح معها آفاق مغايرة للعمل الحضاري والنمو البشري، سواء من حيث علاقة البشر بأنفسهم وفي ما بينهم، أو من حيث علاقتهم بالعالم والطبيعة، وذلك باجتراح توجّهات وجودية متعددة المناطق والخطوط والقواعد، كما تتجلّى في مبدأ الرعاية والحماية، أو في ثقافة التنوّع والتهجين، أو في سياسة الاعتراف والتعايش، أو في عقلية المفاوضة والتسوية، أو في منطق الشراكة والمبادلة، كما هي مفاعيل الفكر التركيبي، والمنطق التحويلي الخلاق، والعقل الوسطي التداولي.
وذلك يقتضي العمل النقدي على الذات، للتحرر من هوامات وهواجس الاعتقاد بما هو مطلق ومقدس وجوهري ونقي وأصلي وثابت وكامل وأحادي ويقيني ونهائي، وسوى ذلك من أدواء البشرية، القديمة والحديثة، كما تتجسم في إرادة التأله والقبض والتحكم والمطابقة والاحتكار والمصادرة، في ما يختص بالعلاقة بما هو حقيقي ومعقول، أو بما هو قيم ومشروع، أو بما هو حسَن ومحمود، وبالطبع، بما هو مصلحة مشتركة ومنفعة عامة.
وهكذا لا يتعلق الأمر بفطرة إنسانية يجري انتهاكها أو إفسادها، كما لا يتعلق باختراع إنسان من لا شيء، بقدر ما يتعلق بتواضع وجودي نتمرس به وتتشكل منه قناعات جديدة من حيث الموقف من الهويات والقضايا والحقوق والمصالح وسواها من الشؤون البشرية التي تنسج مما هو نسبي وعرضي أو متعدد ومغاير أو ملتبس ومحتجب متغير ومتحول أو مؤقت وراهن أو عابر وزائل. وإذا كان الإنسان ظهر بالصدفة أو بفعل لعبة الممكنات والاحتمالات، فقد يزول بالصدفة، بل من جراء شرور أفكاره وسيئات أعماله وذكائه الذي يتباهى به على سائر المخلوقات، والذي به يصنع من أسلحة الدمار الشامل ما يكفي لمحو الحياة من على الأرض مرات عديدة.
السفير
2005/06/03


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.