في معرض تحليلنا للدستور الحالي، قلنا في الحلقة السابقة، إن الكثير من أحكامه، كانت في الحقيقة، حزمة من التدابير الإنتقالية، التي تمت في ظروف معينة، وسياقٍ ذي خصوصية، وبعضها كان حلولاً وسطاً أريد منها التوصل إلى سلام دائم يوقف الحرب الأهلية الضروس، التي قضت على الأخضر واليابس، وفي ذات الوقت الفوز- إن أمكن- بوحدة طوعية، أو جوارٍ آمن على أقل تقدير، في حالة فشل الرهان على الوحدة. تلك في إعتقادي المتواضع، كانت وما زالت، المبررات المنطقية للتنازلات الكبرى التي قدمها الشمال للجنوب، مهراً للسلام وعربوناً للوحدة، والتي وجدت نفسها في الإتفاق السياسي، ثم إنتقلت منه إلى الدستور. ü ورغم أن كل النصوص المتعلقة بالجنوب مباشرة قد إسقطت تلقائياً عقب الإنفصال، الا أن نصوصاً أخرى لا تهم الجنوب فقط، ما زالت في صلب الدستور الحالي، وتمثل ثغرات ونقاط ضعف فيه، يتعين سدها أو تجاوزها في الدستور القادم. ü أول هذه المسائل الإشارات التي وردت حول القضاء الولائي، والتي جاءت في نسق تقسيم السلطة القضائية بين إختصاص قومي، وإقليمي (محاكم جنوب السودان) وإختصاص ولائي، ويبدو ذلك واضحاً عند القاء نظرة على جداول توزيع الإختصاصات الملحقة بالدستور، إذ ورد في الجدول (ج) المتعلق بالصلاحيات الولائية الحصرية في البند (7)، (السلطة القضائية الولائية، وإقامة العدل على مستوى الولايات)، ويستفاد من هذا النص أن هناك قضاء ولائي تحكمه المعايير القومية، لكنه تابع للولاية، وهو يختلف عن نظام الأجهزة القضائية الولائية التي تدير مرفق القضاء في الولايات، لكنها في ذات الوقت جزء من القضاء القومي المركزي، ولا شأن للولاة أو حكومات الولايات بها من حيث التبعية أو الإشراف أو المساءلة. ü ويؤكد هذا الفهم تكرار النص بكلمات أخرى، في الجدول (د) الإختصاصات المشتركة، البند (29) الذي يُقرأ «محاكم جنوب السودان، والمحاكم الولائية المسؤولة عن إنفاذ وتطبيق القوانين القومية». وكما هو معروف فإن الإختصاصات المشتركة تعني أن كل من السلطة القومية والولائية تملك الحق في ممارسة تلك الاختصاصات، أي أن هناك قضاء ولائي وآخر قومي. ü لقد كان مرفق القضاء في السودان قومياً منذ نشأته قبل أكثر من مائة عام، ويجب أن يظل كذلك، فإن ذلك أدعى لضمان إستقلاليته وحيدته. ü والمسألة الثانية هي منح الولايات الحق في أن يكون لأي منها دستور خاص بها يضعه ويجيزه المجلس التشريعي الولائي، وبهذه الطريقة فلدينا الآن قرابة الخمسة عشر دستوراً ولائياً، بالإضافة للدستور القومي. ü لقد سبق أن كتبنا عن هذا الأمر من قبل، ونود أن نؤكد هنا مرة أخرى، أن لا حاجة لنا بدساتير ولائية، إذ لا يوجد تباين جوهري يذكر بين الولايات الشمالية، كما كان الشأن قبل الإنفصال، فالتوجه الحضاري والقيم والهوية هي ذاتها، أضف لذلك أن الدساتير الولائية كلها نسخ كربونية من الدستور القومي، وغير مسموح لهذه الدساتير بالتعارض معه، ولقد أثبتت التجربة العملية أن الحماية القومية لحقوق ومصالح الولايات تكمن في الدستور القومي. ü وقد يقول قائل إن هناك خصوصية لبعض الولايات، ونقول إن التعبير عن هذه الخصوصة مكانه القوانين وليس الدستور، الذي ينبغي أن يكون واحداً يرمز للوحدة الوطنية، والتماسك القومي، وانسجام التوجه والمشارب، ولا مجال للمقارنة بين السودان ودول إتحادية كالولاياتالمتحدة متعددة الدساتير الولائية، لأن الأخيرة كانت دويلات مستقلة توحدت، بينما السودان ومنذ تكوينه الحديث في العهد التركي، كان كياناً سياسياً ودستورياً واحداً. ü المسألة الثالثة هي قضية العلاقة بين رئيس الجمهورية- في نظام رئاسي- وولاة الولايات المنتخبين مباشرة من شعب الولاية. فوفق الدستور الحالي، ليس للرئيس أي دور في تعيين الوالي أو محاسبته أو عزله. إذن كيف يتأتى لرئيس البلاد أن يمارس صلاحياته المنصوص عليها في الدستور، وتحديداً في المادة (58)، المتعلقة بصوت أمن البلاد وحماية سلامتها، والإشراف على المؤسسات الدستورية التنفيذية، وكيف له أن يكون (رأس الدولة، ويمثل إرادة الشعب، وسلطان الدولة). ü بمقتضى الدستور الحالي فأيدي الرئيس مغلولة تماماً إزاء أي تصرفات للوالي المنتخب، وهناك سوابق عملية، ثبت منها أن أخطاراً جمّة ومهددات للمصلحة العليا للبلاد قد حدثت على المستوى الولائي، ولم يجد الرئيس بداً من اللجوء إلى واحداً من خيارين، أحدهما إعلان حالة الطواريء، والثاني إعمال الآلية الحزبية لممارسة الضغط على الولاة للخروج من المأزق، أو التعامل مع الأزمة. ü صحيح أن الوالي مسؤول أمام مجلس الولاية التشريعي وهو المناط به محاسبته وعزله، لكن كيف الخلاص اذا عجز المجلس لأي سبب عن كبح جماح الوالي، رغم خرقه للدستور وسلوكه ومسلكاً ضاراً بالمصلحة العليا للوطن أو الولاية؟ ü الذي نراه، ليس هو التراجع عن النهج الديمقراطي، ولا إطلاق أيدي الرئيس لعزل الولاة المنتخبين ديمقراطياً دون مسوغ معقول أو محاسبة عادلة، لكنّا نقترح طريقاً وسطاً مفاده إبتكار آلية لمحاسبة الولاة عبر مجلس الولايات، والتوصية بعد تحقيق عادل ومنزه عن الأغراض والأهواء، للسيد الرئيس بعزل الوالي، وبأغلبية «4/3» أعضاء المجلس، اذا ارتكب الوالي أخطاء جسيمة، أو فشل في إدارة الولاية بصورة واضحة. ü وفي الحلقات القادمة نواصل في الحديث