بالأمس ودعنا الشيخ الجليل، والأستاذ الكبير والمعلّم العظيم محمد الأمين الغبشاوي، فقد كان فجر أمس الجمعة وعند الرابعة صباحاً هو موعد حصته الأخيرة في فصل الحياة الواسع، وقدم درساً لزملائه وأبنائه وتلاميذه وجيرانه وأحبابه، في التواد والتراحم والالتفاف حول القيم وحول الرموز. المئات جاءوا من كل فج عميق يودعونه في مقابر أحمد شرفي بأم درمان، وسط الدعاء والدموع التي سالت على الخدود وبللت اللحى، فقد غاب المعلم ومات. نعم.. رحل الشيخ الأستاذ الغبشاوي الذي أمضى حياته في الدعوة والتعليم معاً، فقد كان من أبكار الخريجين، ومن مؤسسي مؤتمر الخريجين، ومن دعامات الحزب الوطني الاتحادي إبان زعامة الرئيس إسماعيل الأزهري- يرحمه الله - ثم من دعامات الحزب الاتحادي الديمقراطي بعد دمج الحزبين الوطني الاتحادي وحزب الشعب الديمقراطي. مات الأستاذ والمعلم الذي عاش بتلك الصفات منذ أن التحق بسلك التعليم في أربعينيات القرن الماضي، وحتى في بعثته الدراسية إلى «لندن» التي نهل منها الكثير من العلوم وقواعد التربية الحديثة، وزاوج بين ما تعلمه هناك وبين ما استقاه وتشربه من الإسلام دين الفطرة الذي نشأ عليه في خلاوى الغبش وسط أهله هناك، وقد كان خلقاً رفيعاً وعلماً يمشي بين الناس. عرفته وأنا طفل صغير، فما أشعرني قط- والله على ما أقول شهيد- بأنني طفل أو أنني صغير يمتنع الكبار عن مناقشته، فقد تزاملت وأكبر أبنائه الذكور الأستاذ إبراهيم الغبشاوي منذ الصغر ومراحل الطلب الأولى، وكان دائماً وفي كل الأوقات حفياً بنا، حريصاً على متابعة دروسنا ومناقشتنا في كثير من القضايا العامة.. لقد كان «مُعلّماً» يغرس فينا روح المسؤولية والثقة في النفس، والقدرة على النقاش. وكان- رحمه الله- وفياً حفياً بزملائه من الأساتذة والمعلمين، وبتلاميذه الذين لم ينقطعوا عنه حتى في ساعاته الأخيرة قبل أن يرحل بكل هذه السيرة الطيبة العطرة من دنيانا، إذ لم ينقطع سيل زواره قط بدءاً من قيادات الدولة العليا ممثلة في السيد النائب الأول لرئيس الجمهورية الأستاذ علي عثمان محمد طه، انتهاء بالمساكين من أمثالنا الذين عرفوا فضله ونعموا ببعض علمه وفيض اهتمامه الأبوي الكبير. ونحن في المرحلة الثانوية بمدرسة أم درمان الأهلية الثانوية العليا كان يدرس لنا الأدب في اللغة العربية أستاذنا الأديب الأريب الراحل إلياس سليمان غندور، الذي انتقل إلى عالم الخلود قبل أشهر قليلة- رحمه الله- وكان يحكي لنا كثيراً عن الشاعر الفذ والمبدع إدريس جمّاع، فقد كان ابن دفعته في كلية دار العلوم وحبّبنا في شخصه وشعره، وبتنا نعرف عن «جماع» ما لا يعرفه الكثيرون من أقراننا، فقط من خلال ما تلقيناه من أستاذنا «إلياس غندور» وكان يحكي لنا الكثير من القصص عن شاعرية «جماع» وحساسيته المبدعة، حتى أصبحنا نتمنى أن نراه وأن نتعرف عليه، إذ كان يعيش آنذاك في حلفاية الملوك دون أن يظهر للناس. المفاجأة التي ألجمتني وأسعدتني وأحزنتني في ذات الوقت كانت في منزل أستاذنا الجليل محمد الأمين الغبشاوي، فقد دخلنا إلى صالونه الواسع نحن صحبة وزملاء ابنه «إبراهيم» لنجد أمامنا الشاعر الكبير إدريس جماع.. وكانت تلك مزية أخرى رأينا أن نزهو بها على أقراننا، وعلمنا أن الشاعر الكبير رغم ظروفه المرضية والصحية كان لا يتوه عن منزل الشيخ الأستاذ الغبشاوي- رحمه الله - في صباح أمس الباكر ونحن أمام منزل الفقيد جاءني ابنه «أسامة» يبكي ويقول لي لقد كانت آخر زياراته بعد وفاته إليك.. فقد نقلناه على سيارة إسعاف من مستشفى الزيتونة بشارع البلدية في الخرطوم وعرجنا عليك في الصحيفة.. لكنك لم تكن هناك. اللهم ارحم الشيخ الأستاذ الدكتور محمد الأمين الغبشاوي رحمة واسعة واغفر له واسكنه فسيح جناتك مع الصديقين والنبيين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً.