معلوم للقاصي والداني أن الأكفان ليست لها جيوب!! لأن الميت لا يعمل ولا يدخر ولا ينتظر منه عطاء، ولكن نظام الجباية والرسوم في الدولة مصر إصراراً شديداً على عكس هذا المعنى(يجر الكفن من الميت)وذلك لمعالجة فشل الدولة. الاقتصاد في الأصل هو إدارة جيب المواطن وليس أن تبقى الدولة على حسابه. في تاريخ(الجبرتي) أن الحاكم التركي عثمان البرديسي الذي خلف نابليون في حكم مصر في مطلع القرن التاسع عشر، بالغ في فرض الضرائب على الناس حتى أنه فرض ضريبة على كل ملابس جديدة يلبسها أفراد الشعب. هذه الضريبة سميت بضريبة «الفردة» . وكانت تؤخذ بالضرب والسجن و الإهانة. يواصل هذا المؤرخ بالقول أنه اشتدت وطأة هذه الضرائب وضاق الحال بالناس، و لم يجد الشارع المصري سوى النساء للاحتجاج، فخرجن في مظاهرات وأطلقن الهتاف الذي كان يتردد في مسامع الناس حتى وقت قريب، وكانت صيغة الهتاف:(ايه تآخد يا برديسي من تفليسي) والمعنى ماذا ستأخذ أيها الحاكم من المفلسين الذين لا يملكون شيئا ليدفعوه! هذه القصة التي تحكي قصة كفاح المرأة المصرية في مجتمعات ضعف فيها الرجال، ذكرتني إياها امرأة حملت قطعة خبز وهي تهتف ضد الحكومة في شوارع الخرطوم، ولم يشاركها أحد بالطبع ، ولم يكن الإحجام سببه الاقتناع بسعر الخبز الذي مازالت أوزانه تتراجع باضطراد، ولكن الخوف كان من هروات الإحتياطي المركزي، هذا الخوف نفسه هو الذي أشار إليه الطلبة أيام حكومة النميري بالهتاف الذي ظل أيضاً يتردد في الأفواه(شعب جعان لكنو جعان). المفارقة أن هذا الخوف التاريخي المؤصل لا يكتفي بإيذاء الشعوب وحدهم بل ويمتد تأثيره حتى إلى الحكام. مع مرور الزمن تستحوذ أوهام الكرسي الدائم على العقول حتى تفقد القدرة على التفكير ، لقد كنا نسمع أيام النميري الأخيرة أناساً يرفضون التغيير بحجة(من هو البديل)!!؟أو تظل إرادة التغيير محبوسة في مأزق(ديك العدة)والديك في هذا المثل الشعبي يبقى شوكة في حلق صاحب المنزل، صعبٌ عليه انتزاعها .. إذا ترك الديك ينام فوق رطوبة الأواني المتسخة يتكاثر عليه الذباب، وأما إذا أجبر الديك على المغادرة حطم الأواني. قصة الضريبة المصرية والمرأة السودانية والمظاهرات الطلابية في عهد النميري رأيتها في سلة واحدة وأمامي صفوف نيابة الكلاكلة، بسبب رسوم النفايات! ولم أجد هناك من أسأله من أين استمدت هذه الرسوم شرعيتها القانونية، وهل هذه المجالس التشريعية بعيدة عن مصالح المجالس المحلية؟! وهل المبالغ المطلوبة ووصل الإستلام هي المنصوص عليها في القانون؟ وكيف تكون المحلية خصماً وحكما في قضايا جمع الإتاوات؟ وهل هذه الأرقام هي التكلفة الحقيقية لجمع النفايات؟ أم أن المواطن محكوم عليه أن يدفع المصاريف الإدارية لمحليات مكتظة بجيوش من الموظفين العاطلين؟؟. في تلك الاعترافات الشهيرة التي أدلي بها إداري كبير كان يعمل في وضع رسوم النفايات في ولاية الخرطوم،أموراً لا وصف لها سوى أن أزمة الفساد الحكومية بلغت مبلغاً خرافياً!! هذا المسئول الذي برأ ذمته !! ولو جاءت متأخرة ! وضع الضمير العام في وضع غاية من الحرج(حكومة الإنقاذ) سكتت على الفضيحة ! والرأي العام هرب ! كعادته إلى نومه العميق. أخطر المؤشرات هي أن الأزمة أصبحت ثقافة ! والفساد أصبح قانونا!ً ، وهذا يعني ببساطة لا أحد يملك أن يصحح المقلوب ولا أن يعوض الخسائر. وهذا يقود لأكثر الحقائق مرارة وهي أن الدولة فشلت لدرجة أنها أصبحت(جنازة بحر)، تتمزق في أي موضع تضع يدك عليه.. هذه القضية دليل صارخ على أن الإصلاح لم يكن ممكناً ، إلا بانهيار السقف كله !! هذا (المسؤول)، استيقظ ضميره وهو في(المعاش) وهو يحكي كيف كانت تتم عمليات التزوير طالب(الرئيس ونائبه) أن يوقفا رسوم النفايات المزورة، وهو حجة قاطعه لأنه كان مديراً في قمة الهيكل الفاسد. الأموال التي نهبت من جيب المواطن لم يعد هناك مجالاً لاستردادها والسبب أن تلك الشركات التي تعودت على تلك المليارات لن تقبل بالأقل ! والموظفون لن يقبلوا تخفيض الحوافز والأجور، و بالطبع لن تكون بصورتها القديمة. شهية هؤلاء العاملين جميعاً فتحت في الفوضى ولا سبيل إلى سدها!! طالب هذا الموظف التائب الذي كان مسؤولاً عن عمليات التزوير ، بتعويض المظلومين، وخاصة في قطاع الأعمال والتجار وحدد الأموال المنهوبة بالأرقام ومما قاله هناك:(التزوير عملناه من عام 2003م كل زول أعطيناه نسخة مزورة)لم يكن أحد يسأل، أو يفحص القانون المزعوم.. ربما لأن هناك قناعة أن عمليات الفوضى في وضع الرسوم كانت تقوم على القانون.. كلهم يسرقون(بالقانون) فمن السهل استصدار قانون من المجالس التشريعية في بلد يصفق نواب البرلمان عند تمرير ميزانية تحمل أثقالاً من زيادة أسعار!! والسؤال الصعب هو: كيف يمكن تعويض المتضررين ؟ ومن أين ستدفع هذه المليارات التي نهبت في هذه المدة؟ لهذا نعتبر أن هذا الموظف الذي تاب علناً كان مغالياً عندما طالب الرئيس ونائبه بإيقاف هذا العمل !!.