ü د. مطرف صديق، سفيرنا في الشطر الجنوبي من الوطن، وكيل وزارة الخارجية السابق، قياديٌ بارز في حزب المؤتمر الوطني الحاكم، الحزب الذي في عهده جرت «عملية السلام» المسماة باتفاقية السلام الشامل التي جرى التفاوض عليها في «نيفاشا» المنتجع الكيني الخلاب، الذي اشتهرت الاتفاقية باسمه قبل أن يتم التوقيع عليها في 2005 م بالعاصمة نيروبي، والتي يمقتضاها انفصل الجنوب وشكل دولته الخاصة.. ليصبح القيادي مطرف صديق سفيراً بحكم إلمامه ومتابعته ومعرفته وصلاته الوثيقة بقادة الحركة الشعبية الحاكمة في جوبا منذ مرحلة التفاوض وبعد أن صار وكيلاً للخارجية، التي تولى الوزارة فيها- إبان وكالته- قياديان جنوبيان بارزان من قادة الحركة الشعبية د. لام اكول أولاً ثم دينق الور. ü في منبر الاتحاد الوطني للشباب الذي انعقد الأحد بقاعة الصداقة، كان مطرف صديق من أبرز المتحدثين في جلسة الحوار تلك.. ومطرف أدلى بجملة من الاعترافات اللافتة، اعترافات صريحة لم يجرؤ قيادي في الحزب الحاكم على الإدلاء بها من قبل، حيث يلجأ اولئك القادة والمتحدثون باسم الحزب -عادة- لتصوير انفصال الجنوب، وفقد الوطن لجزء عزيز منه على أنه كان انتصاراً للسلام واستجابة عادلة لمطالب الجنوبيين في تحقيق ذاتهم، وإقامة دولتهم المستقلة، وفوق هذا وذاك تخليص السودان من مشكلة قعدت به وعطلت نموه ونهضته منذ الاستقلال. ü قال د. مطرف صديق إن الحكومة وقعت في خطأ بمعالجتها «عاطفياً» للقضايا العالقة مع جنوب السودان قبل وقوع الانفصال، وأضاف: علينا أن لا نرمي اللوم على الآخرين، وعلينا أن نملك الشجاعة للاعتراف بأخطائنا، وتلك أولى الخطوات للتصحيح، فالإعتراف بالخطأ هو عبارة عن تشخيص دقيق للمرض من أجل معالجته.. نحن لم نُحقق الغاية المبتغاة من انفصال الجنوب، ونحن قراءتنا لم تكن واقعية له، ولم نتبع نموذج الانفصال السلس، وكثير من القضايا عالجناها بالعاطفة، مثل قضايا الأمن والحدود والاقتصاد التي حاولنا نلحقها بالاتفاقيات الأخيرة، وكان الأفضل معالجتها قبل الانفصال. ü هذا في ما يلي إدارة الانفصال بعد أن أصبح قدراً مقدوراً، بحكم اتفاقية نيفاشا، التي أعطت الأولوية للوحدة بالنص على «جعل الوحدة جاذبة»، وهي عبارة طالما وجهنا لها سهام النقد في هذه الزاوية، لأنها كما قلنا حينها تجعل الوحدة ومصير الوطن المقرر منذ نيل استقلاله في 1956 بمثابة «سلعة معروضة على فاترينة» يمكن للمتبضع أن يشتريها أو يصرف النظر الى غيرها إذا لم تعجبه، وما هكذا تقرر مصائر الأوطان.. ومع ذلك فإن ما ذهب إليه السفير مطرف حول العشوائية والعاطفية التي أديرت بها ترتيبات الإنفصال، مما أدى آخر الليل الى ما نحن فيه من تجاذب مع الوحدة الوليدة حول الحقوق بين الدولة السلف والدولة الخلف وحروبات داخلية - في دارفور وجنوب النيل الأزرق وجنوب دارفور، ومن توترات الحدود الجنوبية، ما هو إلا عرض للمرض. ü لكن الأهم من ذلك في حديث د. مطرف هو تلك الإشارات والإعترافات الضمنية بأن عملية الانفصال كانت برمتها مساراً خاطئاً وخطيئة في حق وطن كان يمكن أن يظل موحداً، بل وأكثر من ذلك يمكن أن يعود موحداً إذا ما آب السودانيون الى كلمة سواء. فقد أشار السفير صديق الى إمكانية توحيد السودان مرة أخرى، وعبَّر عن تفاؤله بأن تحقق الأجيال الحالية ذلك، وقال إن «الثقافة» عامل مشترك بين البلدين، ودلّل على ذلك بقوله: إن الحضور في زواج بنت سلفا كير ميارديت تفاعل بصورة كبيرة مع فنانة سودانية -كشف عنها لاحقاً د. أمين حسن عمر، أحد المتحدثين في المنبر الشبابي بأنها الفنانة «حنان بلوبلو»- التي هيجت أو «هججت» الحضور- بلغة السودانيين- وقال مطرف أيضاً إن أهل الجنوب حزنوا كثيراً لخروج فريقي الهلال والمريخ وخسارتهما دورة الكونفيدرالية الافريقية، وأضاف: مازال أهل الجنوب يأكلون الكوارع والفول ويلعبون الكتشينة والضمنة، ويشترون «سكر كنانة وأسمنت عطبرة» ولديهم نفس قوانيننا مثل «قانون النظام العام» بوقف الحفلات الغنائية في وقت غير متأخر من الليل.. ووجه كلامه للشباب قائلاً: أنتم الجيل الذي يمكن أن يعيد الوحدة للسودان، اغتنموا الفرصة ودعونا نتفاءل بغدٍ مشرق رغم الضيق الاقتصادي. ü مهما يكن من أمر، فإن د. مطرف صديق يستحق الشكر من جميع السودانيين المحزونين على ضياع جنوبهم العزيز بين غمضة عين وانتباهتها، فإن يأتي الاعتراف متأخراً خير من أن لا يأتي أبداً، وإذا كان حديث د. مطرف قد انصب في البداية على كيفية إدارة الانفصال وشخص -وهو الطبيب- علل تلك الإدارة التي قادت للنزاعات والحروبات، إلا أن التشخيص الأهم والأعمق والاستراتيجي قد حملته إشاراته حول مشتركات النسيج الاجتماعي شمالاً وجنوباً في وحدة المشاعر والبناء النفسي والجداني للأمة السودانية، في عادات الغذاء وتكامل الموارد وحتى في الطرب للموسيقى والغناء، وكأنه يقول باختصار لقد فرقتنا نيفاشا وهزمت وحدتنا وها هي «حنان بلوبلو» توحدنا ونرقص جميعاً على وقع شدوها الجميل.. وإن الوحدة ممكنة وآتية في يوم ما، ربما في عمر الأجيال المعاصرة وإنه لابد منها لكي يستعيد السودان عافيته وقدرته على النهوض.. لابد من «صنعاء الوحدة وإن طال سفر الانفصال»، والله غالبٌ على أمره ولو كره وتمترس الانفصاليون والعنصريون!