سوف تمر سنوات قبل ان تلتئم الجراح، وتتم إعادة الإعمار لما تقوض ولحقه الدمار، ولكن المهمة التي يعتبرها الليبيون أكثر صعوبة، هي التعامل مع ميراث القمع والرعب والإجرام لعهد الاستبداد والطغيان والجنون، فقد أمضى الطاغية الليبي في الحكم إثنين وأربعين عاما، يزرع قيما هجينة، ويشيع روح التوحش والهمجية في المجتمع، وينفخ في النعرات والعصبيات القبلية والجهوية والإثنية، ويحرك النوازع الرخيصة والغرائز البدائية في النفوس، وشحنها بروح البغضاء، لخلق أنصار من البلاطجة والمجرمين، يحمون حكمه الهمجي، ويطاردون أبناء الوطن الشرفاء، ويهددونهم بالتصفية المعنوية والجسدية، ويبقى السؤال المطروح في ليبيا الجديدة، كيف يمكن مسح أثار العدوان من النفوس والقيم ومحاولات التشويه التي تعرض لها المعدن الأصيل للمواطن الليبي، وبأية وسيلة نستطيع التعامل مع ميراث القبح والبؤس والتعاسة الذي تركه عهد الطاغية وراءه، عندما سافر إلى الحلقة السابعة من الجحيم التى رأها دانتي بعين الشاعر والفنان، مقرا أبديا للطغاة المجرمين، لأنها أكثر الحلقات عذابا وقسوة وانتقاما، وماهي، يسأل الليبيون، أنجع وسيلة لإعادة العافية النفسية والروحية والبدنية لعقول وقلوب ونفوس وأبدان، كانت هدفا لسهام مسمومة ورماح ملعونة انطلقت من ترسانة القبح والبشاعة والجنون، وكهوف الظلام والجريمة، التي كانت في حوزة طاغية الطغاة وملك ملوك السفه والسقوط . وهناك إجماع بين الطلائع المستنيرة، أن العامل الثقافي هو أكثر العوامل قدرة على مقاربة هذه القضية، فالقيم والسلوكيات والتربية، التي تضررت من جراء أربعة عقود من العته، تدخل في دائرة التربية والتعليم كما تدخل أيضا في عناصر ثقافية أخرى مثل الفن والأدب بكل ما لهما من تجليات وألوان وأشكال، يجب استنفارها باتجاه تطهير النفوس وتعبيئتها بقيم الجمال والحب والولاء للوطن، بدل الولاء لجهة أو قبيلة، أو الانتماء للعقائد الدغمائية التي تسجن عقل الإنسان في قالب جامد، كما كان يسعى العهد البائد إلى فعله بالبشر، ولابد من الإشارة هنا إلى حقيقتين من الحقائق التي تظهر واضحة جلية، تعززها الوقائع والأحداث والشواهد التارخية، الحقيقة الأولى هي صفاء ونقاء المعدن الليبي، فكان تاجر الذهب ، كما يعرف كل الليبيين، يضع عصاة المكنسة أمام الدكان علامة غيابه، وهو يذهب للصلاة، أمنا إلى أن متجره لن يمسه أحد، والحقيقة الثانية هي أن كل ما ضخه عهد الطغيان من سفه وإجرام ، لم يستطع النفاذ إلى كل النفوس، وظل جيل ولد وتربى وعاش في ظل إعلامه، بمنجاة من سمومه، بدليل أن هذه الثورة صنعها شباب تحت الأربعين عاما، أي أنهم ولدوا في عهده، مما ينبيء بأن ذلك المعدن الأصيل لم يغب تماما عن النفوس، وأن عملته المزيفة الفاسدة لم تستطع حقا طرد كل العملات الذهبية الحقيقية من سوق المجتمع الليبي، وأنه بالإمكان أن ننجح في المهمة لو استطعنا اعتماد برنامج ثقافي حضاري، تعليمي تربوي، لإعادة تأهيل النفوس وتعبئتها بكل ماهو أصيل وجميل وحقيقي، واثقين بأن موارد الحضارة التي غذت المواطن الليبي . موارد غنية ثرية تمتد إلى عمق التاريخ البشري، فليبيا إحدى أرض الحضارات التي منها انبثقت أولى حضارات البشرية، ومعلوم أن الامتداد الطبيعي بين ليبيا ومصر جعل لييبا جزءا من الحضارة الفرعونية، بالإضافة إلى أن كل الحضارات القديمة، مرت بأرض ليبيا، إذ لم تكن هناك حضارة عبرت منطقة الشرق العربي، ومنطقة البحر الأبيض المتوسط، لم تترك بصماتها في ليبيا، بدءا من حضارة الفينيقيين إلى الحضارة الإغريقية إلى الحضارة الرومانية وصولا إلى الحضارة العربية الإسلامية التي أعطت البلاد هويتها وشخصيتها، وطبعا الإنسان لا يحيا في الماضي ولا يصنع مستقبله من أنقاضه، ولكن حقائق التاريخ تقول بأن من لا جذور له، لا مستقبل ولا بقاء له في عالم الغد، وبمرجعية من هذا الماضي وفوق أرضيته الحضارية نستطيع أن نبني المستقبل الزاهر لشعوبنا، نعم بالأدب والفن والفكر، بالتربية والتعليم والعلوم، وبما نملك من موارد بشرية ومادية يجب أن نخوض رحلة البناء والتشييد لليبيا الجديدة. د. أحمد ابراهيم الفقيه العرب أونلاين