بعد انفصال الجنوب وتكوينه لدولة مستقلة عن جمهورية السودان، وإنهاء حالة الحرب والاقتتال السوداني على مدى عقود أرهقت فيه حزينة الدولة، وأدخلتها في دوائر العداء البغيض بين المجتمعات السودانية، ومن ثم أحرقت الأرض ومارست عليها سياسة حرب الهويات، التي امتدت الى أقاليم أخرى، لانتاج أزمات موجعة في جسم الدولة الجريحة بفصل واحد من القوميات السودانية الراسخة في الوجدان السياسي والثقافي والاقتصادي، وكانت واحدة من ثنائيات التشكيل القومي في السودان. وبعد الانفصال برزت في دائرة الصراع قوى تنطلق من أبعاد جهوية وعرقية تمددت في الخارطة السياسية لشغل مساحات مقدرة في حالة الفراغ السياسي، الذي نتج عن غياب الأحزاب السودانية من هذه الساحة، وتعويل الحكومة على الحلول العسكرية في حسم تلك الحركات، وأحياناً تلجأ إلى التفاوض مستندة على وسادة الآلة العسكرية التي جعلت الدولة في دائرة الحرب المستمرة. وفي ظل تلك المعطيات الموجودة على واقع الحياة السياسية في السودان أصبحنا ندير حرباً مع الدولة الوليدة، استخدمت الحرب كواحدةٍ من الخيارات، وأيضاً مع قطاع الشمال ذات الخيار في مناطق النيل الأزرق وجنوب كردفان، إضافة إلى حركات دارفور، وكل أولئك تجمعوا تحت منظومة الجبهة الثورية التي تعتمد على استقطاب الأعراق والقوميات السودانية، واستخدامها ككروت ضغط على الحكومة لتحقيق بعض الأهداف التكتيكية من إضعاف ولاء تلك القوميات للدولة، واستفادة مكونات الجبهة الثورية من تعاطف ووجود منظمات المجتمع الدولي خاصة في دارفور، فأصبحت حروبها ومناوراتها السياسية وتحركاتها الإعلامية تنطلق بدعم دول لها عداء للنظام القائم الآن، وتعتبر فيه دولة الجنوب حلقة عبور لهذا الدعم. ويجري الآن مسلسل التفاوض القاتل في أديس أبابا، حيث قامت الوساطة الإفريقية بإعطاء الدولتين مهلة ستة شهور لحل الأزمة أو الصعود إلى أعلى حتى مجلس الأمن، وفي تقديري أن الاتحاد الإفريقي يمارس على النظام سياسة حرب الاستنزاف لإرهاقه وإدخاله إلى ساحة المعركة الفاصلة منهكاً، أو إرغامه على قبول خيار التفاوض مع قطاع الشمال الذراع القوي الذي تعول عليه الدول الغربية في إحداث معادلة في الممارسة السياسية، ورسم خارطة جديدة للدولة السودانية، وتمديد التفاوض لحل النقاط الخلافية يأتي في مصلحة دولة الجنوب وقطاع الشمال، لأن رؤية من يديرون ملفات التفاوض في الاتحاد الإفريقي أن النظام تحيط به أزمات اقتصادية وضغوط دولية، ربما تضعف فاعليته في التفاوض الطويل. من أهم النقاط الخلافية مسألة فك الارتباط بين قطاع الشمال ودولة جنوب السودان، وهي نقطة مفصلية في مستقبل العلاقة بين البلدين، وترى الحكومة أن قطاع الشمال يعتمد على الجنوب في إدارة معاركه ضدها، ويستفيد من علاقته التاريخية مع الجنوب وقادته، ويرى الجنوبيون في قطاع الشمال ترسانة عسكرية تعمل كخط دفاع أول للمحافظة على أمن الجنوب واستقراره، والاستفادة من تحالفاته مع الحركات في دارفور، وبعض القوى السياسية السودانية.. وبذلك يحقق الجنوبيون هدفهم بإشغال السودان بأزمات داخلية تشل حركته نحو الدولة الجديدة، أما القطاع يسعى لإجبار الحكومة على قبوله كشريك أساسي في معادلة الحكم، وتحقيق أهداف خطط وإضعاف هيمنة قوى المركز، وتعزيز قوى الهامش على مستويات العرق والدين، وهذا واضح في مواثيق الفجر الجديد المولود الشرعي لقطاع الشمال الذي يسعى به لجر الأحزاب إليه. واستناداً على مجريات ما توصلت إليه آلية التفاوض من تمديد وغيره، نرى على الحكومة أن تتخذ بعض الخطوات التي ربما تخرجها من دوامة التفاوض والحرب معاً وهي.. أولاً: الاعتراف بأن مد أمد التفاوض بينها وجنوب السودان، يضعف من موقفها التفاوضي يرهقها ويشكل ضغطاً على المفاوض السوداني، خاصة أن الأزمة مركبة وبها تقاطعات وعمليات تشويش تصدر من جهات معادية، وأخرى لا تتحرك من داخل بلا هدى تربك المفاوض الحكومي (منبر الشمال) نموذجاً. ثانياً: دولة الجنوب لا توجد بها مؤسسات راشدة لإدارة التفاوض إلا بمعية مفكري قطاع الشمال ودول محور العداء للسودان، وتدار بعقلية المليشيا، ولذلك لابد من عزل الجنوب من قطاع الشمال عبر تفاوض منفصل. ثالثا: إن التفاوض مع قطاع الشمال يعجل بإضعاف دولة الجنوب، وإحراق كرت الضغط التفاوضي السوداني الجنوبي، خاصة إذا أخذنا أن محاور التفاوض، ربما تكون منصبة حول المشاركة في الحكم والديمقراطية والعلمانية وغيرها من قضايا الخلاف بين الطرفين، وكلها تحتاج الى زمن طويل. رابعاً: الدخول في مفاوضات مع القوى السياسية للوصول لتفاهمات وقواسم مشتركة تزيح شبح التفتيت للدولة السودانية، لأن القوى السياسية أصبحت تعول على المعارضة المسلحة للضغط على الحكومة من الأطراف، وتقوم هي في الداخل، وتمثيل مشاهد درامية عن انتهاك الحكومة لحريات التعبير وحقوق الإنسان، واستخدام الإعلام كوسيلة معبرة لتلك المشاهد التي تحقق لها تعاطف المجتمع الدولي. حافر وصهيل إن قضية قطاع الشمال مع الحكومة هي معركة بقاء للطرفين، تستخدم فيه الآن القوة العسكرية للحسم والاستنزاف للقبول بالآخر بغية التوصل إلى نقاط تفاوضية إجباراً، وعلى الحكومة أن تقييم ما يجري الآن هو حرب استنزاف لموارد الدولة لتحقيق أهداف بعيدة، هي خلق حالة من الارتباك داخل عمق الدولة السودانية، وما تفرزه الحرب الدائرة اليوم في محاور دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، مضافاً إليها الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد والعباد.إن إقرار مبدأ التفاوض مع قطاع الشمال أو المعارضة السلمية، هو جزء من إدارة الصراع الكبير بين الحكومة والمجتمع الدولي، لذلك أي من الخيارين يجبر الجنوب القائم على عشوائية الممارسة السياسية، والمتكئ على قطاع الشمال والجبهة الثورية كعصا يخيف بها الدولة السودانية توهماً. إن قطاع الشمال يستفيد من المكونات الاجتماعية التي تقطن في بؤر الصراع وتأليبها على الحكومة وإخراجها من دوائر الولاء، وقيادتها لحالات الاغتراب الاجتماعي وإيصالها لمرحلة عدم الإحساس بالانتماء للدولة السودانية، وربما تصل إلى مرحلة ما وصل إليه الجنوب.